حتى قبل توليه مقاليد الرئاسة في 20/1/2025 بدأ الرئيس الأميركي ترامب يوّجه تهديداته في مختلف الاتجاهات، فقد هدّد منطقة الشرق الأوسط «بالجحيم» إذا لم يتم إطلاق (الرهائن) الإسرائيليين قبل تنصيبه، كما عبّر عن رغبته في ضم جزيرة «جرينلاند» التابعة للدنمارك إلى الولايات المتحدة لتدعيم «أمنها القومي»، كما توعدَ «باسترجاع» قناة بنما بدعوى أنّ الصين «تهيمن» عليها، وذلك فضلاً عن إبداء رغبته بأن تكون كندا الولاية الواحدة والخمسين بالإضافة إلى الولايات المتحدة الخمسين الحالية، وفضلاً عن انذاراته لكثير من الدول (المكسيك، كندا، الصين، الاتحاد الأوروبي) برفع الرسوم الجمركية عليها بحجة أن الولايات المتحدة تخسر في تعاملها التجاري مع هذه الدول.
ويجب ألا ننسى في هذا السياق «قنبلته» الكبرى التي أطلقها بشأن قطاع غزة، حيث قرر وضعه تحت تصرف الولايات المتحدة بعد نهاية القتال، وبعد تهجير سكانه (أكثر من مليوني نسمة) إلى مصر والأردن!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا «يتنمر» ترامب على العالم بهذا الشكل وكأنه يتجاهل القوانين الدولية، والأعراف الدبلوماسية، وحقوق الإنسان، وسيادة الدول؟. إنّ ذلك في تقديري يرجع إلى عدة أسباب لعلّ أهمها:
أولاً: «سيكولوجية» ترامب نفسه، فقد نما اعتداده بنفسه بصورة غير معقولة وهو الذي عاد إلى السلطة بعد محاولة عزله مرتين (خلال عهدته الأولى 2016-2020) من قِبَل مجلس النواب الأميركي، وبعد أن أُدين فعلاً في قضية جنائية (قضية شراء الصمت)، وبعد أن نجا أنصاره عملياً من محاولة تقويض الديمقراطية الأميركية من خلال الهجوم على مبنى الكونجرس الأميركي. الأمر الذي جعله يتخيل أنه «غير مسبوق»، وأنه «استثنائي» وأنه «موضع رعاية العناية الإلهية»، وبالتالي يحق له ما لا يحق لغيره من قرارات، وتجاوزات، واستثناءات!
ثانياً: رئاسة «ترامب» لأقوى وأغنى دولة في التاريخ وهي الولايات المتحدة الأميركية، فاقتصاد بلاده يُشكّل ربع اقتصاد العالم، وهي تتوافر على أكثر من (6000) رأس نووي استراتيجي تستطيع بها تدمير العالم أكثر من مرة، ولها أكثر من (800) قاعدة مُوزّعة على مستوى الكرة الأرضية، ومن هنا يشعر «ترامب» أن بين يديه (وهو بالفعل يملك صلاحية أقوى رئيس تنفيذي في العالم) قوة هائلة يستطيع بها أن يفعل بها ما يشاء.
ثالثاً: انتماء «ترامب» إلى الحزب الجمهوري وهو حزب «يميني» غالبية زعمائه وأعضائه من «البيض» الذي يؤمنون (وإنْ لم يعلنوا ذلك) بأنهم العنصر المتفوق (White Supremacy)، وهذه نظرة عنصرية بلا شك ولكن الحزب الجمهوري يضطر لأن يتلطى بشعارات أكثر مقبوليةً من جماهير الناس.
رابعاً: مصلحة الولايات المتحدة وبالذات المادية منها، حيث من الواضح أن ترامب يسعى جاهداً من خلال قراراته، وتهديداته، وصفقاته إلى تحقيق مصلحة الولايات المتحدة وبخاصة المادية منها، فهو يريد ضم جزيرة «جرينلاند» (2 مليون كم2) لأنها «غنية»، وهو يريد استعادة قناة بنما لأنها «توفّر» رسوم المرور على السفن الأمريكية، وهو يريد رفع الرسوم الجمركية على عدد من البلدان وحتى الحليفة منها كدول الاتحاد الأوروبي، وهو يريد استثماراً من السعودية يصل إلى (تريليون) دولار وكل ذلك لكي يكسب أموالاً أكثر للولايات المتحدة وبالتالي تظل أمريكا أقوى وأغنى وهذا يتمثل في الشعار الذي رفعه إبان حملته الانتخابية (Let us make America great again) وقد تعزّز هذا التوجه لدى ترامب بحكم نشأته وعمله «كرجل أعمال» «ومطور عقاري»، لا كرجل سياسة، فهو لا يأخذ العوامل السياسية، والاعتبارات الدبلوماسية، والقيم الأخلاقية بالاعتبار بقدر ما يأخذ الاعتبارات الاقتصادية، أيّ مفهوم «الربح والخسارة»، ولعلّ ترامب يسأل نفسه عند كل قرار مفصلي مع الدول الأخرى: كم تربح الولايات المتحدة، وكم تخسر نتيجة هذا القرار؟ بغير اهتمام كبير بما قد ينطوي ذلك على أبعاد سياسية، ودبلوماسية، وأخلاقية.
خامساً: عدم وجود قوة دولية عظمى توازن الولايات المتحدة في «قوتها الكلية» لكي «تفرمل» ترامب عند نقطة معينة وتجعله يحسب حساباً دقيقاً عندما يتخذ قراراته «الخلافية» التي تمس أمن الشعوب وسيادتها وكرامتها، فروسيا مثلاً قوة عسكرية كبرى لديها ما يوازي قوة الولايات المتحدة من الرؤوس النووية الاستراتيجية ولكنها تشغل الرقم (13) في سلم الاقتصاديات العالمية، والصين هي ثاني اقتصاد في العالم، ولكنها ما زالت وراء الولايات المتحدة من حيث القوة العسكرية، كما أنها ما زالت تتلمس طريقها في عالم السياسة والنفوذ.
صحيح أن العالم ينتقل من عالم «القطب الواحد» إلى عالم «الأقطاب المتعددة» ولكن ذلك يحدث ببطء وبالتدريج، الأمر الذي يترك الولايات المتحدة القطب الأكبر والأوحد الذي يتربع على عرش العالم.
إلى متى سوف يستمر ترامب في «تنمّره» على العالم؟ لا أحد يستطيع الإجابة على هذا السؤال بدقة، ولكن المؤكد أن الحياة تسير دائماً نحو «التعادلية»، ونحو «التوازن» ولذا فقد يستمتع «ترامب» «بتنمره» إلى حين (ربما كل فترة رئاسته)، ولكن دوام الحال من المحال كما يقولون!