في لحظة تتعاظم فيها التحديات الإقليمية وتتداخل فيها الحسابات الدولية، أظهر جلالة الملك عبد الله الثاني قدرة استثنائية على إدارة التفاوض السياسي، محوّلاً لقاءه مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من محطة إملاءات إلى مساحة لإعادة تعريف الممكن في معادلة الصراع. لم يكن اللقاء بروتوكوليًا عابرًا، بل كان ميدانًا حقيقيًا لاختبار الإرادة السياسية، حيث استطاع جلالته أن يُعيد توجيه الحوار من سياق الأوامر إلى منطق الشراكة، ومن القرارات الأحادية إلى طاولة التفاوض.
إعادة ضبط المعادلة: من موقف دفاعي إلى دور مبادر
لم يكن الأردن يومًا دولة تقبل فرض الحلول، ولم يكن الملك عبد الله الثاني زعيمًا يخضع لسياسات الإملاء. في لقائه مع ترامب، لم يقتصر الأمر على الدفاع عن الثوابت، بل كان جلالته يمارس دبلوماسية متقدمة تُعيد توزيع الضغوط وتحولها إلى مسؤولية جماعية. فمنذ البداية، كان واضحًا أن الطرح الأمريكي يتسم بالتسرّع والافتقار إلى العمق الاستراتيجي، لكن الملك لم يدخل المواجهة بانفعال أو برفض مطلق، بل اختار النهج الأذكى: تفكيك التصلب الأمريكي بهدوء، وإعادة ضبط زوايا الرؤية، بحيث تتحول القضية من ملف بيد طرف واحد إلى مسؤولية دولية وعربية مشتركة.
ما تحقق لم يكن مجرد رفضٍ لمقترح، بل كان نقلة نوعية في إطار التفاوض، حيث نجح جلالته في دفع واشنطن للاعتراف بأن أي حل لا يمكن أن يكون مفروضًا، وأن الأردن ليس متلقيًا للقرارات، بل فاعلٌ أساسي في رسم المشهد السياسي. هذا التحول لم يكن سهلًا، بل احتاج إلى قدرة على خلق مساحات للحوار من العدم، وهي مهارة لا يمتلكها إلا القادة الذين يجيدون فن الممكن، ويحسنون استثمار التوقيت السياسي لصالح قضاياهم.
تحريك المياه الراكدة: رسالة للأطراف العربية والدولية
من أخطر ما واجهته القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة هو الجمود الدبلوماسي، حيث بات المشهد محكومًا بثنائية القبول أو الرفض، دون أي محاولة جادة لإيجاد منافذ جديدة للحل. في هذا السياق، جاء الأداء الأردني ليكسر هذه الثنائية، ويفرض خيارًا ثالثًا: لا للقبول الأعمى، ولا للرفض العقيم، بل إعادة توجيه الطرح الأمريكي إلى ساحة أكثر توازنًا.
لم يكن جلالة الملك يتحدث إلى ترامب وحده، بل كان يخاطب العواصم العربية والعالمية، محذرًا من مخاطر الرضوخ لحلول غير واقعية، ومؤكدًا أن الأردن لن يكون وحده في مواجهة هذه التحديات. وهكذا، خرج اللقاء برسالة واضحة: الملف الفلسطيني ليس مسؤولية الأردن وحده، بل هو ملف عربي، والموقف الأردني لن يكون درعًا يُستخدم لتمرير مشاريع غير عادلة.
الملك بين الثبات السياسي والمرونة التكتيكية
في اللحظات المفصلية، لا يكون النجاح السياسي في الرفض أو القبول المطلق، بل في القدرة على إعادة تشكيل المواقف وفق معطيات الواقع. هنا تتجلى عبقرية جلالة الملك، الذي استطاع خلال اللقاء أن يوازن بين التمسك بالثوابت وبين المرونة التكتيكية التي تتيح للأردن هامشًا أوسع للمناورة.
لم يكن جلالته بحاجة إلى شعارات رنانة ليؤكد صلابة موقفه، بل كان نهجه قائمًا على خطاب العقل والمنطق، حيث قال بوضوح: “سأعمل ما فيه مصلحة بلدي”. هذه العبارة لم تكن مجرد تصريح، بل كانت خلاصة مدرسة دبلوماسية تعرف متى تصمد، ومتى تبادر، ومتى تفرض حضورها على طاولة القرار.
النتائج: كيف انتقل الأردن من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل؟
ما تحقق في هذا اللقاء لم يكن مجرد تسجيل موقف، بل كان إعادة تموضع استراتيجي جعل من الأردن حجر زاوية في أي نقاش مستقبلي حول القضية الفلسطينية. فقد أُجهضت المحاولات الرامية إلى فرض حلول فوقية، وأُعيد التأكيد على أن أي خطوة قادمة يجب أن تكون ضمن إجماع عربي، لا في إطار صفقات منفردة.
وفيما كان البعض ينتظر خروج الأردن ضعيفًا من اللقاء، حدث العكس تمامًا: ازدادت قوة الموقف الأردني، وبات واضحًا أن عمان ليست ساحة لتمرير القرارات، بل لاعب رئيسي قادر على قلب المعادلة وإعادة رسم خطوط اللعبة السياسية.
ختامًا: دبلوماسية الملك—إرث سياسي يُضاف إلى تقاليد الدولة الأردنية
التاريخ لا يُكتب بالبيانات، بل بالأفعال. وما صنعه جلالة الملك في لقائه مع ترامب لم يكن مجرد موقف سياسي، بل كان درسًا في الدبلوماسية الذكية، حيث لا يكفي أن ترفض، بل يجب أن تعرف كيف تجعل الآخرين يعيدون التفكير في خياراتهم.
لقد أثبت الأردن بقيادته الهاشمية أنه قادر على الصمود في وجه الضغوط، وأنه ليس مجرد متلقٍ للقرارات، بل صانعٌ لمساحة جديدة للحوار، حيث تصبح القضايا المصيرية محل نقاش لا محل إملاء.
بهذا الأداء، لا يكون الملك عبد الله الثاني مجرد قائد يحمي مصالح بلاده، بل يصبح نموذجًا سياسيًا في فن إدارة الملفات الكبرى، حيث يُثبت مجددًا أن الذكاء السياسي ليس في الانفعال، بل في القدرة على خلق مساحات جديدة، حتى عندما يبدو أن كل الأبواب مغلقة.