مدار الساعة - كتب: عبدالله محمد الغويري - ظَلَّت البنات تلعب (بيت بيوت) من بعد العصر وحتى غياب قرص الشمس - غير مُباليات بنسَمَات الهواء الباردة التي ترفرف على وجوهِهنَّ وأعناقِهنَّ، وقفت إحداهنَّ فجأة..!!.. ثم أفلتت من أصابعها بعض (عِيدان الغَيْصلان) وقالت وهي تربط شعرها - على شكل ذيل فرس :
-أذن المغرب يا بنات.. قومن نروح..
رجعنَ صوب بيوتِهنَّ مُسرعات وهُنَّ يضعنَ أيديهنَّ على رؤوسهِنَّ إتقاءً من زخات المطر التي بدأت للتو.. دخلنَ البيوت كالفراشاتِ المبلولة ، ثم انكمشنَ ككرات قُطن أُنثوية بالقرب من الصوبات، تفوح من أجسادهنَّ رائحة الشتاء والمساء.
في إحدى البيوت - قال (الوالد) :
الحمد لله.. هذه أول شتوة تجينا (بسعد الذابح)..
ثم ارتدى (فِلدة) عسكرية قديمة، لفَّ (قضاضة) على رأسهِ وتوجه مسرعاً نحو المسجد ليصلي المغرب،
(الأُمُّ) سعيدة وهي تراقب من النافذة - ذلك المشهد الملائكي لحبات المطر وهي تسقط علي (معرش العنب)، لفت انتباهها تلك (القِطَّة) التي تنتفِضُ من القشعريرة وراحت تختبئ في (خُمّ العَلَف)، (الجَدَّة) جالسة في منتصف المكان تصلي المغرب على كرسي،(والأُخت الصغرى) تُغنِّي.. وتقفز هنا وهناك على (المخدات والوسائد) في (صالون الدار).
جاء (الأَخ الأوسط) من الخارج وهو يحمل كرتونة كبيرة مُعبَّأة (بقرميات الحَطَب)، ثم قال متحمساً:
-غير ينزل الثلج.. قالوا بالنشرة الجوية الثلج رح ينزل على كل جبل فوق الألف متر..!!!.
ردت عليه (الأُخت الكبرى) وهي تمسح بعض الدَّمع على خدها الأيسر - من البصل الذي تفرِمه:
-جبال بيرين في منهن أقل من ألف متر... ووو.... و.
قاطعها الاخ الأوسط سريعاً :
-إذا ما ينزل ثلج في بيرين رح اطلع على جبال (رجم الشوف) و(العويلية) أو رح اروح على منطقة (الكمشة) و (مقام عيسى)..!!.
رجع (الوالد) من المسجد وتقطِرُ ملابسهُ مطراً، خلع فِلْدتهُ ووضعها على الكرسي جوار (بوري) الصوبة، ثم قال وهو يراقب البخار الذي بدأ يتصاعد من الفِلدة :
-جمعنا المغرب مع العِشاء...الحمد لله.
حينها تبسَّمت (الجدة) وراح لسانها يلهج بالحمد والشكر من جديد، بدأت (الأخت الوسطى) تفرش سُفرة العَشاء: (خُبْيزة، كعوب مقلي، كعوب مع شوربة اللبن والرز، فِجل، زيتون مكبوس، وشوربة عدس).
بعدما تناولوا الطعام، تجمَّعوا حول صوبة الحطب، ارتدى الوالد (فروة) واضطجع أمام (الجدة) بالقرب من الصوبة.. إبريق الشاي (بالميرمية) يغلي فوق صوبة الحطب - شرِبوهُ - وهم يشاهدونَ النشرة الجوية في أخبار الساعة الثامنة، شعروا بالبَرْدِ عندما قال المذيع (عساف الشوبكي) بعض الكلمات الجويَّة : بَرَدْ.. زخات رعدية .. حالة عدم استقرار جوي.. تساقط ثلوج.. ضباب.. توخي الحذر.. انخفاض ملموس.. سيول..!!!.
طُرِقَ باب الدار عِدَّة طَرَقَات.. وبالكاد سمعوه !!..، ذهب (الأخ الأكبر) ليفتح الباب.. كان (العَمُّ) في الخارج قادماً ليسهر عندهم.. استغل (الأخ الأكبر) الظرف وخرج لِيدخن سيجارة أُخرى على برندة الدار، توغل (العم) بينهم وهو يرتعد، أعْطَى - (الأخت الوسطى) - مغلف ورقي مليء (بحبات الكَسْتَنة).. ثم قَبَّل يد (الجدة) وجلس بجوارها.. بعد وقتٍ قليل جائت (الأخت الكبرى) بإبريق (السَّحلب) الساخن ..تلقَّى (الأخ الأوسط) - أمراً من والدهِ - بإضافة (قرمية حَطَب) للصوبة المشتعلة .. ثم راحوا يتجاذبونَ أطراف الحديث و(السواليف) وأخبار القرية.
فتحت (الأخت الوسطى) حقيبتها المدرسية لتحل واجب مادة (الرياضيات).. أصبح لون (بوري) الصوبة قريباً من اللون البرتقالي، واشتدت حرارة المكان.. المطر في الخارج ينزل عنيفاً.. والرياح مجنونة ولا إتجاه لها.. أمَّا الليل فقد تواطأ طَواعيةً مع الغيوم الغامِقه في صَفحة السماء الكُحليَّة.. صوت (الرعد) أصبح متتابِعا ومُرعِباً.. وفجأة.!!..، انقطعت الكهرباء في الوادي وفي بعض المناطق المجاورة.
قامت (الأم) تتهادى بصعوبة وحَذَر، وأشعلت مِصباح الزِّيت.. وزَّعت (الأخت الكبرى) الشموع في المطبخ وأركان بعض الغُرف، قالت (الجدة) بعدما سمعت دَوِيْاً (لرعدٍ) أخر :
-سبحان الذي يسبح الرعد بحمدهِ والملائكته من خيفتهِ..
جائت (الأخت الكبرى) بصحونِ الذُّرَة المسلوقة.. وبعدها بكرتونة (الرَّاحة) مع البسكوت السَّادة.. حَركة الرّياح مُخيفة في الخارج.. والأمطار الرّعدية لم تتوقف.. قبضت (الجدة) بقوة على (المِسباحة) في يدِها اليمنى، وبدأت تروي لهم حكايات وقِصص قديمة، وهم يُنْصِتونَ لها مُذْعِنين.. استكملت (الأخت الوسطى) حَلَّ واجِبها على ضوء مِصباح الزيت؛ قال لها (الأخ الأوسط) مُستهزِئا- وهو يحتسي آخر رَشْفة من كوب السَّحْلب الثاني:
-ما ادري ليش مغلبة حالِك.. رح يعطلونا.. بكرة ما في مدارس..!!.
لم تهتم لكلامهِ وأشاحت بالمِسطرة بحركة لولبية تُوحِي بعدم اكتراثها بما يتوقعه.
كان (الأخ الأكبر) يستمع لِقصص جدته وهو يلاطف (الأخت الصغرى) - ويصنع لها بيدهِ أشكال الظِّلال لبعض الحيوانات على السقف والجُدران من ضوء المِصباح.. بعد فترة بسيطة - بدأت فقرة تناول حَبّات (الكَسْتَنة) المشوية على الصوبَّة، لم تتوقف (الجدة) عن سَرْد القِصص، شعروا بالحُبِّ يَحِفّهم بعدما دثَّرتهم تلِك الحِكايا الدافئة من كل جانب.. أمّا (الأخت الصغرى) فقد هَيْمنَ عليها النُّعاس، وراحت تتسلَّلُ في العَتمة بحثاً عن حضنِ والِدها، خبأَتْ نفسها داخل فروتهِ وكأنَّها وجدت ألطفَ بُقعَةٍ في هذا العالَم، ضمَّها (الوالدِ) بأقوى ما لديهِ.. وظلَّ يستنشِقُ رائحة شَعْرِها حتى غفى كلاهما..!!.
مرت فترة ليست بالقصيرة.. استأذنهم (العم) ليغادر، خرج معهُ (الأخ الأكبر) - مثلما تجري العادة - واستغل الموقف ليدخن سيجارة جديدة.. اتكأت (الجدة) على (الأخت الكبرى) لتساعدها على الرجوع لغرفتها، نفخت (الأم) على كل الشموع وأطفأتها، استقروا في غُرَفِهم.. ومدَّ كل واحدٍ منهم جسدهُ في فراشهِ.. استحوذَ عليهم النُّعاسُ بشكلٍ تدريجي وهم يلْتحِفونَ بِبَركةِ الشتاء ويستمِعونَ لِقَرقَعةِ المطر.
مرت فترة طويلة.. تحول الجَمّر في صوبة الحطب إلى رَمادٍ دافئ.. نام الجميع - باستثناء (الأخت الكبرى) - التي زارها (الأرق) - وظَلَّت تفكر بذلك الشاب الذي جاء هو وأهله لخِطبتها قبل بِضعة أيام، لم تدري أي مستقبل ذلك الذي ينتظرها، وضعت عيناها داخل القمر، وسلَّمَت جبينها لضوء البَرق.. ثم فردت خِصال شعرها بين النجوم.. وشعرت بأنَّها ستنام في غيمة.. نامت بعد منتصف الليل .. بعدما أيقنت بكرم الله بأنَّ كل شيء سيكون على ما يرام... كل شيءٍ سيمضي على خير..!!!.
كتبتُ هذه الحكاية من (نسج الخيال) تزامناً مع منخفض جوي طال انتظاره.
بيرين.
الأربعاء ٢٠٢٥/٢/٥