مدار الساعة - كتب- مازن النعيمي- يتجه غالبية المحللين والباحثين السياسيين للتأكيد على أن الرئيس الأمريكي المنتخب حديثاً، يوظّف التهديدات التي يطلقها استناداً لقدرتها على تعزيز صورته كزعيم يصعب التنبؤ بقراراته أو التكّهن بها، لتكريس هيمنته كشخصية يستحيل توقعها في ظل عدم التزامها التام بالثوابت السياسية المتعارف عليها، انطلاقاً من استقراء كيفية تعامله خلال ولايته الأولى مع الأحداث العالمية، وفي مقدمتها قضايا الشرق الأوسط.
وعلى ذلك، لطالما كان "دونالد ترامب" يقلب المشهد رأساً على عقب في الكثير من اللقاءات، عبر إطلاق تصريحات تتناقض تماماً مع سياسة بلاده بحسب نمطيتها المعروفة، فتارة يصف الرئيس الكوري الشمالي بـ "صديقه الحميم"، وتارة يهدد علناً بتدمير العاصمة بيونغ يانغ ونسفها عن بكرة أبيها.
ولعل التفسير الأبرز الذي يمكن الاستناد عليه للتعرف على هذه الشخصية، يكمن فيما عرف بـ "نظرية الرجل المجنون"، التي تم إطلاقها في عهد الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون"، إذ كان يهدف من خلالها إلى الإيحاء لقادة بعض الدول، أن استفزازه سيفضي إلى جعل ردود أفعاله متطرفة أو متهورة، ما يسهم غالباً في دفع الأطراف "المُستَفزة" للتراجع وتقديم المزيد من التنازلات.
ويمكن القول بعبارة أوضح: إن الخطاب السياسي لترامب وتصريحاته المثيرة للجدل، تُجسّد ترجمة حقيقية لتكتيكه التفاوضي القائم على منطق "التاجر"، وبهذا الإطار يُمعن في الاستفزاز لزعزعة استقرار الطرف المقابل، ثم يهُب لاستغلال الفوضى الناتجة عن ذلك، ويفاوض بقوة على "الصفقة".
بناء على ما سبق؛ قد يبدو من الصعب تفكيك خطابات الرئيس الأمريكي وفق تفسيرات محددة مسبقاً، إلا أنها تمثل بمجملها انحرافاً كبيراً عن المعايير والأسس التي دافعت عنها الولايات المتحدة لسنوات طويلة، ما يؤشر لانعكاسات وتداعيات مستقبلية قد تقوّض بخطورتها كل هذه المعايير لصالح إحياء منطق "البقاء للأقوى".
إن التسليم بأن ما يتحكم في "ترامب" مجرد نزوات عابرة والتأثير فيه سهلاً، عبارة عن أماني وأحلام تعكس عدم فهم طبيعته "المُبتزة"، إذ سيقوم بابتزاز كل من يقف أمامه بشتى الوسائل، بصرف النظر عما يشغله في الإعلام من تصريحات متناقضة، إلا ان كل ذلك سيحدث في إطار محدد يخدم مصلحة بلاده كما يراها التيار الذي أوصله للحكم، في صياغة تؤكد خطورة المرحلة إقليمياً وعالمياً.
وباستدعاء هذه التطورات، تتصدر الحاجة لموقف عربي موحّد لمواجهة العالم بخيارات محددة تُعطّل وقوع نكبة ثالثة، فإما حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وشاملاً وفق قرارات الشرعية الدولية، أو استمرار انزلاق المنطقة لأحداث أكثر خطورة، واستبدال "الحرج" الحالي المفروض، بحرج إسرائيلي أمريكي.
وعليه، ينبغي التنبّه بعدم اعتبار "ترامب" كُلّي القدرة، ويكفي الإشارة إلى تطرّفه اللفظي واختباره لردود أفعال الأطراف المقابلة لقياس أفعاله التالية وفقها، فهو يتراجع أمام الصمود، ويسعى لكسب الأكثر عند التراجع أو التنازل، فلا مكان للأخلاق أو للقيم في عالمه، ولا يعرف إلا النفوذ والسلطة قيماً عُليا، ولا مجال للفشل أو الضعف أمام قيمههذه.
ويجب التذكير بأن هناك العديد من عناصر القوة في منطقتنا، ينبغي استغلالها في هذه الظروف لتسوية الصراعات وحل الأزمات التي قد تطرأ تباعاً، فيما سيؤدي العجز عن استغلالها إلى المزيد من الابتزاز والضغط، لذلك لا بد أولاً من التحرك عربياً لاتخاذ قرارات تنص على أن تنفيذ أي إجراء يفضي إلى تهجير فلسطينيي قطاع غزة أو الضفة الغربية سيؤدي إلى اعتبار كل المعاهدات والاتفاقيات مع إسرائيل لاغية، وكذلك دعوة مؤسسات المجتمع الدولي لاتخاذ قرارات من شأنها اعتبار أي تهجير للفلسطينيين عملاً غير مشروعاً وعدّه عدواناً مباشراً.
وفي انتظار تفاعل ردود الفعل العربية، فإن العامل الأبرز القادر على التصدي لهذه التحولات الجديدة يكمن في الداخل الفلسطيني، والذي يتطلب خطابه نهجاً جديداً ومتطوراً في التعامل مع السياسات الأحادية التي تستهدفه، وابتداع أدوات جديدة تتلاءم مع تعاطف الأوساط والمحافل الدولية مع قضيته ومعاناته، واستغلال ذلك خير استغلال، وصولاً لتحرير أرضه وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني.