لمن لا يعرف ، فإن روسيا الاتحادية دولة عظمى ، وقطب نووي عسكري عملاق ، و قوة اقتصادية كبيرة على مستوى أسيا و التجمعات الاقتصادية الكبيرة مثل " بريكس " و " شنغاهاي " ، و" رابطة الدول المستقلة " ،و اللغوية مثل " روسكي مير " ، و الأكبر مساحة في العالم ، و الأغنى في المصادر الطبيعية (البترول ، و الغاز، و الذهب ، و الخشب ، و هلم جرا ) . و تحتل بينهم الرقم 1 عالميا . وتقود منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ومع انطلاقة العملية الروسية الخاصة ، الإستباقية ، التحريرية ، الدفاعية داخل الأراضي الأوكرانية السابقة عام 2022، توجه عالم متعدد الأقطاب الذي يرتكز على فكر المفكر الروسي ألكسندر دوغين و أخرون من خارج روسيا مثل ( ديفيد كامبف ،و ديل أولتون ، و ديليب خيرو ، و فابيو بيتيتو ) ، وعلى قناعة الرئيس فلاديمير بوتين وقيادة قصر " الكرملين " الرئاسي في موسكو العاصمة . وتاريخ العلاقات الروسية – السورية سوفيتي الأصل ،و منذ عهد الرئيس السوري شكري القوتلي ، و حافظ الأسد ( 1944- 2000 ) ، مرورا بعهد الرئيس المخلوع بشار الأسد حتى عام 2024 . و عاصر نظام الأسد على مدى 53 عاما ، زعماء سوفييت و روس منهم ( جوزيف ستالين ، جيورجي مالينكوف ، نيكيتا خروتشوف ، ليونيد بريجنيف ، يوري أندروبوف ، و قسطنطين تشورنينكو ، و مخائيل غورباتشوف ، و باريس يلستين ، و فلاديمير بوتين ، و دميتري ميدفيديف ،و بوتين حاليا ) .
ويسجل للاتحاد السوفيتي وقوفه مع سوريا ومصر في حربي 1967 و 1973 في زمن جمال عبد الناصر رغم اختلاف النتائج و توزعها بين الخسارة و الانتصار ، لكن خلاف أنور السادات مع الاتحاد لحاجة مصر للإستقلال ، أخرجهم من مصر ،و تحول السوفييت تجاه سوريا . وركز الاتحاد السوفيتي وقتها جهده على مواجهة الحرب الباردة و سباق التسلح مع الغرب من البوابة السورية على ضفاف البحر المتوسط و عبر تسليح سوريا و المساهمة بقوة في بناء بنيتها التحتيىة . فتم تشييد قاعدتي طرطوس البحرية عام 1971 في عهد حافظ الأسد ،و حميميم الجوية عام 2015 في عهد بشار الأسد ،و اعتبرت اللغة الروسية الثانية في سوريا بعد اللغة العربية ،و تشعبت المصالح السوفيتية / الروسية و السورية حتى يوم انهيار نظام الأسد الابن على يد ثوار جبهة النصرة – هيئة تحرير الشام بتاريخ بتاريخ 8 ديسمبر 2024 ،وبعد صراع مع الثوار، و المعارضة السياسية من جهة ، ومع صنوف الأرهاب بقيادة تنظيم - القاعدة و داعش - من جهة أخرى منذ عام 2011 ، على مدى 14 عاما متواصلة . لكن السلطة المدنية السورية الجديدة - بربطة العنق - بقيادة أحمد الشرع ، حاملة راية الثورة ولباس الثوار بالأمس القريب أثبتت و بسرعة فائقة أدهشت دول الجوار ، و العالم الخارجي بأن لا علاقة لها بتنظيم القاعدة و داعش منذ عام 2016 ،و سجلت معهما طلاقا بالبينونة الكبرى و إلى الأبد ، ووعدت بأن لا تكرر سيناريو أفغانستان .
لقد سارعت السلطة و الادارة السورية الجديدة من وتيرة المقابلات الداخلية السورية خاصة مع الشباب ،ومع الخارج عبر استقبال وفودهم ، ومنها المطالبة بالافراج عن سجناء حقبة بشار الأسد مثل والدة الصحفي الأمريكي أوستن تايس ، و بوادر لقناعة عربية بقيادة أحمد الشرع ، و أجنبية أيضا ،و ارتياح إسرائيلي متأخر نوعا ما بعد هيجانه بداية تخوفا و رعبا من الشكوك بعلاقة نظامه الجديد بصنوف الارهاب ، و هو الذي لم يثبت لهم في الميدان ، فقصفت السلاح السوري و مخازنه المحادي لها ،و وافق الشرع في المقابل على قبول قوات للأمم المتحدة لحراسة الحدود السورية - الإسرائيلية ، لمعرفته المسبقة بحاجة سوريا أولا لإعادة بناء جيشها عبر العلاقات الدولية المتوازنة وفي مقدمتها مع روسيا الاتحادية ، و الولايات المتحدة الأمريكية ،و الصين الشعبية .ولبناء جهاز أمن الداخل و تحويل سلاحه لخدمة أمن الشعب السوري وليس مثل كما كان عليه الحال في زمن الأسد القريب.
صرح يوري أوشاكوف كبير مستشاري قصر " الكرملين " الرئاسي ، بقبول أحمد الشرع بعلاقات طويلة و استراتيجية مع موسكو ، وهو الذي أكده وزير الخارجية سيرجي لافروف المتابع عن كثب للشأن السوري الجديد المتطور . ولم تتمكن الادارة الأمريكية برئاسة جو بايدن و حضور توني بلينكين المنتهية ولايتها من النجاح في تحقيق رسالة عكسية داخل دمشق الجديدة عبر دولة " كييف " ووزير خارجيتها أندريه سيبيغا هدفت لإجتثاث الحضور الروسي السياسي و العسكري من سوريا على طريقة اجتثاث اخر نظام أوكراني موالي لروسيا بقيادة فيكتور يونوكوفيج من خلال انقلاب " كييف " عام 2014 . و أصبح المطلوب الان من القيادة الروسية الاقتراب أكثر من دمشق ،و دعوة قيادتها الجديدة لموسكو للحوار ، و لترتيب أوراق السياسة و الاقتصاد ، و العسكرة .
لقد خدمت روسيا سوريا في العهدين السوفيتي و الروسي ،و قدمت سوريا منذ منتصف الأربعينيات خدمة استراتيجية دولية لروسيا ، سواء في السياسة أو في العسكرة ، لكن روسيا لم تزج نفسها بتفاصيل الداخل السوري وما ظهر عنه بعد سقوط نظام الأسد ، ومنه ما تعلق بسجن " صيدنايا " المرعب ، ولم تبحث مع النظام السوري الجديد مسألة الأموال المنهوبة من قبل النظام السوري السابق المنهار و التي تقدر بحوالي 130 مليار دولار التي دخلت الاراضي الروسية حسب تصريح للسياسي اللبناني -وئام وهاب – الوسيط السابق بين إسرائيل و ماهر الأسد المتهم بالإتجار بالمخدرات ، هذا ماعدا ما وصل أيضا إلى سويسرا و يقدر بحوالي 12 مليار دولار مجمدة حاليا . و الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يلتقي في موسكو التي احتضنت بشار الأسد بصفة لاجيء إنساني لغاية الان ، و الإعلام الدولي يراقب العلاقة الروسية – السورية السابقة و تطوراتها مع قدوم النظام السوري الجديد .
لم تتدخل روسيا مباشرة في قضية ملاحقة إسرائيل لخلايا إيران و حزب الله في عهد بشار الأسد ، ولم تعتبر إيران منافسا لها في سوريا ،ومع خروج إيران من دمشق طورت موسكو علاقتها معها و استقبلت للتو الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ،و أعلنت عن اتفاقية اقتصادية ، سياسية ، دفاعية ، أمنية شاملة تمتد 20 عاما إلى الأمام . ولعل أهم ما قدمته روسيا لسوريا إلى جانب الحماية العسكرية المباشرة عبر قاعدتيها العسكريتين ، و الانتشار على طول الحدود مع إسرائيل ، هو تدخلها العسكري المباشر في حمايتها من الأرهاب عام 2015 ، و تفكيك ترسانة سوريا الكيميائية التي هددت الأمن الوطني السوري ، و تخصيص مناطق في الجنوب و الشمال لخفض التصعيد ، لكن الحرب الأوكرانية غيرت من قوة المسار الروسي الحامي للحدود السورية جنوبا و شمالا .
كل أنظار العالم تتجه حاليا لدراسة شأن سوريا ، خاصة بعد توقف الحرب الإسرائيلية المشؤومة و بالعكس حرب المقاومة العربية الباسلة معها في غزة و في لبنان ، و التي ستنسحب على التدخل اليمني فيها . ولدي قناعة شخصية بأن سوريا ماضية صوب النهوض ، وهي تستحق ذلك ، و سوريا قوية ، عمق استراتيجي لكل العرب ، وتبدو منفتحة على دول الجوار و المنطقة و العالم . و أي سلام سوري ، أو عربي شامل مع إسرائيل مستقبلا ، الأصل أن يتمسك بمخرجات قمة العرب في بيروت عام 2002 التي نادى فيها الأمير / الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله لسلام شامل مقابل انسحاب شامل من الأراضي العربية المحتلة خلف حدود الرابع من حزيران لعام 1967 . و السماح بقيام دولة فلسطين و عاصمتها القدس الشرقية ،ومواصلة الوصاية الهاشمية للمقدسات فيها .