مدار الساعة - ابو نايف ( راعي الجردا) - جاء طفل إلى منزل جدي في أواخر السبعينات وطلب من جدتي بعض الطماطم. وبعفوية الختيارات، سألته: “أمك وشدها بالبندورة؟” فأجاب الطفل: “طابخين بندورة ولحمة”، واستطرد قائلًا: “بس يا عمّة نسبة اللحمة 10٪”.
اليوم، تذكرت هذه القصة فوجدت أن طعامنا يحتوي على 10٪ خبز، وأننا أصبحنا نحاول أن نصنع توازنات على السياق المجتمعي والسياسي يجب أن تحتوي على أكثر من 10٪ خبز. في خضم مرحلة دقيقة من التحولات.
تعيش الدولة الأردنية مرحلة دقيقة من تاريخها، تتسم بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية تعيد تشكيل علاقتها مع المجتمع. في هذا السياق، يمكن اعتبار مفهوم “10٪ خبز” استعارة عن التوازن الهش بين المؤسسات والمجتمع، وهو توازن يعكس واقعًا معقدًا تزداد فيه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وتغيب عنه الرؤى المستدامة لمعالجة الأزمات الهيكلية.
في السنوات الأخيرة، برزت سياسات تهدف إلى إحكام السيطرة على المؤسسات الوطنية، من خلال تقليص استقلاليتها وتحويلها إلى أدوات خاضعة لنظام اقتصادي لا تُعرف معالمه إلا إذا ظهرت أدواته على الساحة السياسية. لم تقتصر هذه السياسات على البنية المؤسسية فقط، بل امتدت إلى المواطن الأردني نفسه، الذي يُعاد تشكيله داخل إطار الدولة ليتناسب مع متطلبات جديدة. ومن أهم هذه المتطلبات، تفكيك قيم الولاء للمشروع الأردني ككيان أو كهوية.
باتت الهوية الوطنية تُسطَّح واختُزلت في شعارات الولاء أو رُبطت برموز بدوية، بهدف إظهارها كأنها مجرد تكتلات سكانية بعيدة عن مفهوم المواطنة، وأقرب ما تكون إلى الرعية المستهلِكة. وفي إطار موازٍ، جرى تهميش أدوار المواطن الحقيقية في المساءلة والمشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي أو رسم الطموحات المستقبلية. هذا التوجه يعكس نزعة مركزية تهدد بتآكل الهوية الوطنية التاريخية التي كانت، لعقود طويلة، مصدر قوة واستقرار للأردن.
وعلى الرغم من الخطاب الحكومي المتكرر حول تنمية المحافظات، إلا أن هذه الجهود غالبًا ما تبقى شكلية وغير قادرة على معالجة الجذور العميقة للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ولا أُفشي سرًّا إن قلت إن التحول السياسي الجديد ما هو إلا فصل جديد من تقزيم دور المحافظات، التي تُعد العمود الفقري للهوية الوطنية.
الأطراف التي تواجه أزمات متفاقمة من الفقر والبطالة والتهميش، عمّقت الفجوة بين المركز والأطراف وأضعفت التماسك المجتمعي، بموجات من السخط الاحتجاجي الذي يفقد منطقه أحيانًا. الحُلول المعلنة لا تتجاوز كونها مبادرات قصيرة الأجل، تفتقر إلى رؤية استراتيجية تُعالج الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات المحلية.
أما على الصعيد السياسي، فيُلاحظ غياب مشروع وطني محصن يعالج الأزمات الهيكلية التي تواجه الدولة. تُدار البلاد بسياسات قصيرة المدى، تسعى للحفاظ على “مجرد وجود” الدولة دون تقديم حلول جذرية. حتى بات المواطن يرى هذه الإجراءات بأنها مجرد “مياومات” وزارية.
هذا النقص في التخطيط الاستراتيجي يُنتج قرارات تفتقر للشفافية، ما أدى إلى تراجع ثقة المواطن في نظام العمل الحكومي ومخرجاته. وفي ظل هذا الفراغ، يصبح المواطن عاجزًا عن التأثير في عملية صنع القرار، ما يزيد من شعوره بالتهميش.
نتيجة لهذه السياسات، بات المجتمع الأردني يعاني من حالة تفكك تدريجي. المواطن، المثقل بأعباء اقتصادية يومية، أصبح أقل اهتمامًا بالقضايا الوطنية الكبرى. هذه البيئة تُسهِّل انتشار الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وتُضعف الهوية الوطنية التاريخية الأردنية، ما يجعل المجتمع أكثر عرضة للأزمات الداخلية والتأثيرات الخارجية.
هل التحديث الاقتصادي أمل غائب عن الواقع؟
رغم الحديث المستمر عن مشاريع التحديث الاقتصادي، إلا أن غياب التكامل بين السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يُضعف من جدوى هذه المشاريع. المواطن لا يرى انعكاسًا حقيقيًا لهذه الجهود على حياته اليومية، ما يعزز الشكوك حول جدواها. التنمية الاقتصادية يجب أن تكون جزءًا من مشروع وطني شامل يربط بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ويوزع الموارد بشكل متساوٍ بين جميع أنحاء الدولة.
أين طريق الخروج نحو مشروع وطني شامل؟
الأزمة التي يمر بها الأردن تتطلب تجاوز السياسات المؤقتة والانتقال إلى مشروع وطني شامل يعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومكونات المجتمع.
هذا المشروع يجب أن يركز على:
اولاً : تعزيز الهوية الوطنية التاريخية من خلال ان يكون هناك وزن سياسي واضح لجغرافيا الوطن، في عملية صنع القرار وتمكينه من ممارسة دوره في النقد والمساءلة، ما يُنتج شعورًا أصيلًا بوطنية المشاريع والمؤسسات.ذلك أن القوانين النسبية ذات المقامات المتشابهة اثبتت تشويهها لإرادة الناخب ومخرجاته السياسية.
ثانياً : إصلاح المؤسسات لضمان استقلاليتها وفعاليتها، مع إعادة توجيهها لخدمة الصالح العام بشكل متساوٍ في جميع أنحاء الوطن.
ثالثاً : تنمية المحافظات عبر سياسات مستدامة تعالج مشكلات الفقر والبطالة، وترسم مسارات دمج الأطراف بالمركز، بعيدًا عن المركزية والبيروقراطية المعرقلة للتنمية.
رابعاً : رؤية إدارية واضحة تُعزز الشفافية والثقة بين الدولة والمجتمع، وتضع حلولًا جذرية للتحديات الهيكلية.
“10٪ خبز” ليست فقط تعبيرًا عن محدودية الموارد أو ضعف التنمية، بل هي انعكاس لغياب رؤية شاملة تُعيد للمواطن كرامته ودوره في بناء دولة مؤسسية. بدون مشروع شمولي محكم، يتسم بصفة وطنية حقيقية، ستبقى حالة التراجع والانقسام مستمرة، وسيظل المواطن يشعر أنه يحصل فقط على “فتات” حقوقه.
حينها، ربما تصبح نسبة اللحمة اقل من 10٪.