إنّ مما لا شك فيه أنّ سقوط النظام السوري السابق كان زلازلاً سياسياً ترك وسوف يترك أثره ليس على الداخل السوري فقط، بل على جوار سوريا العربي، وعلى محيطها الإقليمي والدولي.
وإذا أخذنا ارتدادات هذا الزلزال على المحيط العربي لسوريا (محاطة بلبنان، والعراق، والأردن) فإنّنا نلاحظ أولاً وقبل كل شيء أن "النظام" الجديد في سوريا هو "نقلة" في تحالفات سوريا الاستراتيجية، فبعد أن كانت متحالفة بشكل وثيق مع إيران، سوف تصبح متحالفة بصورة وثيقة مع محيطها العربي مع كل ما يترتب على ذلك من تجاوز "الاختلال" الاستراتيجي الذي أحدثه تحالفها السابق مع إيران على حساب الأمن القومي العربي.
وإذا أتينا إلى العلاقات البينية المستقبلية بين سوريا والدول العربية ذات الحدود المشتركة معها فإننا سوف نلاحظ على الفور أنَ هذه العلاقات هي علاقات "تفاعلية" بالضرورة، ولكنها "معقدة" في نفس الوقت ولكي نكون أكثر تحديداً فإننا يمكن أن نناقش الموضوع على النحو الآتي:
أولاً: العلاقة مع لبنان: لقد كانت علاقة سوريا مع لبنان تاريخياً علاقة "وصاية" أو "هيمنة" من قبل سوريا على لبنان، ولم تَفتح سوريا سفارة لها في لبنان إلّا في السنوات الأخيرة، كما شاع القول بأن السوريين واللبنانيين هم شعب واحد في بلدين، ومع التطور الجديد في سوريا وبروز نظام معادٍ لإيران في سوريا فإنّ العلاقة مع لبنان سوف تصبح أكثر تعقيداً فمن الجلّي تماماً أن "حزب الله" وحاضنته الاجتماعية لن يكونوا سعداء بالنظام الجديد الذي قطع الطريق مع مرجعيتهم في طهران وزاد انكشاف حزب الله أمام إسرائيل ومناوئيه من الطوائف اللبنانية في الداخل، وبالمقابل فإن بعض الطوائف الأخرى وبالذات الطائفتان الكبريان في لبنان وهما: المسيحية والسنية (ناهيك عن الطائفة الدرزية) سوف تكون مبتهجة بالتطور الجديد وإن كانت لا تعلن ذلك صراحةً بسبب "الحساسيات" الداخلية اللبنانية. إنّ بروز النظام السياسي السوري الجديد بتوجهاته التي عبّر عنها حتى الآن سوف تنعكس حتماً على لبنان، وقد تؤدي إلى خلق توازنات أكبر في الداخل اللبناني، الأمر الذي قد يكّرس أكثر السلم الأهلي والتعايش المشترك بين الطوائف وبخاصة إذا انتهى الموضوع إلى تقوية الدولة اللبنانية ونزع جميع الأسلحة من أيدي كافة "الأفرقاء" والابقاء فقط على سلاح الدولة.
ثانياً: العلاقة مع العراق: لعلّ العلاقة السورية العراقية تاريخياً لم تكن أقل تعقيداً من العلاقة السورية اللبنانية، فطوال حكم جناحي البعث في سوريا والعراق (بين 1963 – 2000 تقريباً) كانت العلاقة متوترة إن لم نقل شبه مقطوعة، أما بعد ذلك فقد تأرجحت هذه العلاقة وتوترت بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وبعد تمدد "داعش" في العراق وسوريا (بين 2014 – 2017)، ومع بروز النظام السوري الجديد بتوجهاته التي أصبحت واضحة بشكل عام فإنّ العلاقة بين البلدين لم تكن سهلة وبخاصة أن العراق كان يُعتبر إلى حدٍ ما من دول ما سُمي "بمحور المقاومة والممانعة" بكل ما يعنيه ذلك من نفوذ إيراني في العراق فضلاً عن إمساك طائفة واحدة بمقاليد الحكم في العراق، وتطبيق نظام "المحاصصة" في حكم البلاد.
إنّ من المتوقع في ظل التطور السوري الحاصل حالياً أن يصبح العراق ميداناً للاختبار بين النفوذ الإيراني الذي يريد أن يُبقي العراق في دائرته بل وربما استعادة النفوذ في الإقليم من خلاله (إلى لبنان عبر سوريا) وبين النفوذ السوري المتسلح بالحاضنة العربية وبالدعم الغربي التركي، الأمر الذي قد يعني مستقبلاً مزيداً من التوازن في "الوضع العراقي"، وعودته ولو تدريجياً إلى المنظومة العربية وبخاصة إذا ما عمدت الولايات المتحدة إلى تصعيد "عقوباتها القصوى" على إيران ومحاولة تحجيمها كي تقبل بواقع أن تصبح "دولة طبيعية" بدون مدّ أذرُعها إلى الإقليم.
ثالثاً: العلاقة مع الأردن: ليس بعيداً عن العلاقة السورية اللبنانية والعلاقة السورية العراقية لم تكن العلاقة السورية الأردنية "سلسة" تاريخياً فالدولة العربية الوحيدة التي غزت قواتها الأراضي الأردنية (إبّان أحداث أيلول عام 1970) هي سوريا، والدولة العربية الوحيدة التي حشدت قواتها (في الثمانينيات من القرن الماضي) على الحدود الأردنية هي سوريا، ولكن وبرغم ما سبق فقد كانت هناك علاقات "لا باس" بها بين البلدين، ولعلّ بروز النظام السوري الجديد يعطي فرصة لتصويب العلاقات وبخاصة أن النظام السوري السابق كان يفتح جبهة "حرب مخدرات" مؤذية على الأردن، فضلاً عن سماحه لبعض الميليشيات الإيرانية الهوى بالتواجد على الحدود الشمالية للأردن، وفضلاً عن ذلك تحمّل الأردن لعبء ما يزيد عن مليون لاجئ سوري. إن الواقع يفرض على الأردن وسوريا مزيداً من التعاون لمصلحة البلدين وبخاصة أن سوريا في وضعها " البائس" الحالي بحاجة ماسة إلى تعاون الأردن معها في المجالات كافة، وأن "النظام" السوري الجديد يعلن عن "مغادرته" لخلفيته "الجهادية السلفية" ورغبته في بناء نظام سياسي تعددي يحتكم إلى الدستور والقانون.
إنّ فرص تطور العلاقات السورية الأردنية أكبر بكثير من تطور مثيلاتها مع لبنان والعراق وبذلك بالنظر إلى الاعتبارات التي أشرنا إليها آنفاً، وقد نزيد عليها بأنّ الدول الغربية سوف تكون "داعمة" لكل تعاون ممكن بين سوريا "الجديدة" والأردن، الأمر الذي قد لا يكون متاحاً بالنسبة للبنان والعراق.
إنّ من الصعوبة بمكان التنبؤ بمستقبل علاقة سوريا "الجديدة" بجاراتها العربيات ولكن من المحتمل أن تكون هذه العلاقة محكومة بمزيد من التفاعل، ومن المأمول أن تسعى سوريا وجميع جاراتها العربيات إلى "حلحلة" التعقيدات فيما بينها وصولاً إلى وضع مُستقر ومُستدام.