.. غادر سيف حابس المجالي الحياة، وليعذرني القارئ إن ظن أني أكتب في شأن شخصي أو عائلي، أنا أكتب عن رجل خدم في الوظيفة العامة أكثر من (30) عاما وغادرها.. راضيا.
كنا نشاهده في شبابنا على التلفاز كثيرا، حين تسلم رئاسة تشريفات مكتب الأمير حسن، وكنا نحتسي القهوة في مكتبه بدار رئاسة الوزراء حين كان مديرا للمراسم وقتها.. وسيف لم يجلس على هذه الكراسي لأنه ابن حابس فقط.. بل لأنه تحلى بالخلق والوفاء، وكان طيبا.. راضيا بكل ما أعطته الحياة.
أحبته العشيرة والناس ومجتمع العسكر. والكرك أحبته، لأنه الأقرب لحابس في الشكل وفي الصوت وفي اللهجة، وإذا ارتدى الشماغ والنظارة السوداء.. فلن تفرق بينه وبين والده.. كأن حابس قد أطل من فوق الذرى والحساسين تحيط به والهوى كله أردني، الناس أحبته أيضا لأنه حين ترك الوظيفة العامة.. قرر أن يلتحف الصمت، ويبقى مع الأقرباء والاصدقاء، لم يسلك دروب المعارضة.. لم يمارس التذمر أبدا، وكان يخبرنا دائما بأن الحياة أكبر من مطمع زائل.. أو وظيفة عابرة، وظل دائما على حبه للعرش، وعلى درب الوفاء للهاشميين مشى..
كانت شخصيته مثل مركب لا يدري أين يرسو.. على شاطئ حابس الابن والرائد في القوات الخاصة، والذي ورث من جده السمرة والهوى، وأبدع في العسكرية. وأبدع الرماية وطوع العشق على كفيه، حابس الموزع بين الدم الشركسي والدم الكركي كان أحلى فتى أنجبته العشيرة، وأغلى الشباب.. وقد رسا مركب الهوى على ضفاف قلب حابس الابن تارة، وتارة أخرى كان يرسو على ضفاف عشق حابس المشير والجنرال والتعبير الدقيق عن الهوية والضمير والوجدان.
ياما أخبرنا سيف عن حابس الوالد، عن الكلمات التي كان يلقيها في أذنه.. عن مواقفه، عن القصائد التي كتبها، عن زمن الحرب والنار، وعن الوفاء كيف يولد في القلب وكيف يتجذر وكيف يصبح مدرسة وملحمة..
رحل الفتى الكركي، وقرر أن يلتحف التراب، لكنه ترك إرثا لن نجرؤ على تجاوزه؛ ترك طارق ابنه البكر، الذي ظل على خُطا والده يسير، وترك لنا البساطة والمحبة والخلق، وأكثر ما ترك سيف.. إرثاً من الحكايا عن والده وعن العشيرة وعن ليالي الكرك الحانية.. رحل الفتى الذي كنت حين ترى وجهه تلمح عيون حابس وضحكة حابس وشماغ حابس ومسدس حابس.. وتلمح أكثر ما تلمح الشخصية الأردنية الحرة، والتي تشكلت من الوفاء والبندقية والحرب.. والتي ختمت العمر بالرضا.
رحمك الله يا أخي وصديقي ورفيق الدرب.. وأحلى من ارتدى الشماغ، وأجمل من مارس الوفاء عقيدة ونهجاً ودرباً.