نحن، العرب الوحيدون في العالم، الذين تطلق روسيا الاتحادية الصديقة علينا وعلى شرقنا مصطلح "الشرق القريب"، وتبلغ مساحة روسيا حوالي 18 مليون كلم2، وبعدد سكان يقترب من 150 مليون نسمة، وهنا لا أتحدث عن مساحة إقليم " ألاسكا" الذي خرج في التاريخ القيصري عن السيادة الروسية بيعا، ولا عن مساحة شرق وجنوب أوكرانيا التي حررتها روسيا مؤخرا وسط ما تسميه عبر تاريخها القديم والمعاصر بروسيا الصغيرة، أي أوكرانيا.
ويحتل الوطن العربي المساحة التالية عالميا بعد روسيا حيث تبلغ مساحته أكثر من 14 مليون كلم2، وبعدد سكان يفوق سكان روسيا بأكثر من ثلاثة أضعاف (حوالي 500 مليون نسمة). والمصادر الطبيعية الروسية تقارب نظيرتها العربية على مستوى النفط، والغاز، والمعادن، والفحم، والحديد والخشب. وثمة كلمات عربية تتكرر في اللغة الروسية مثل (صندوق، واستكان، والشاي، وسكر، ومسجد، والبندورة، والقط، ولمبة، وغيرها). والعربية والروسية عريقتان عالميتان، ومن أهم لغات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. والأديان السماوية السمحة تتوزع في الوطن العربي وروسيا بين الإسلام، والمسيحية، واليهودية، وغيرهم، ويتوزع العالم العربي جغرافيا بين آسيا وأفريقيا، فيما تنتشر روسيا في آسيا وأوروبا، ومعا يشكلان جسرا بين هذه القارات وبينهما. والمسافة بالكيلومتر بين العرب وروسيا تقترب من 4 آلاف، وطائرات المسافرين رابط أساسي، والفيزا الألكترونية كذلك.
والتاريخ العميق بيننا عريق، وتعود جذوره للفتوحات الإسلامية، للقرون الوسطى، وإلى الأعوام 18 – 38 هجري مع دخول الإسلام إلى القفقاس، وعلى المستويين السياسي والدبلوماسي تجذرت العلاقات العربية مع المكون السوفيتي بداية 1922 / 1989، وبعد ذلك مع روسيا الاتحادية المستقلة. ورغم نداء شريف العرب وملكهم الحسين بن علي طيب الله ثراه بالوحدة العربية، إلا أن الاستعمار من جهة، والمصالح الاستراتيجية الخاصة لكل قُطر عربي حالت دون تحقيق الوحدة العربية، بينما ذهب السوفييت لبناء اتحادهم، ولترسيخ أواصر الوحدة الفدرالية الروسية، والتعاون من جديد مع المعسكر السوفيتي السابق اقتصاديا وعسكريا، ومنع حلف "الناتو" الذي رفض التعاون مع روسيا بداية عام 2000، ثم تحول إلى معسكر معاد من الاقتراب من الحدود الروسية الواسعة التي تتفوق عالميا في مساحتها وتتبوأ الرقم 1. والتحالفات الاقتصادية والعسكرية العربية متشعبة، وموزعة على خارطة العالم، بينما تركز روسيا اليوم خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1989 وبدء العملية الروسية الخاصة الدفاعية التحريرية عام 1922 على بناء توجه تعددية الأقطاب الذي يشمل شرق وجنوب العالم، ويبقى الباب مواربا تجاه الغرب عندما يصحو الضمير. ومناهضة احادية القطب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الهادف دائما للسيطرة على أركان العالم وإثارة الأزمات والحروب والتخفيض المؤسسي المبرمج من عدد سكان العالم وسطها.
يقول لنا التاريخ إن الانفتاح الروسي على الشرق بدأ بعد انتهاء الحرب الروسية التركية 1768 -1774، وثمة مجموعة من الكتب التي رسمت لنا ملامح العلاقات العربية – الروسية بوضوح، ومن بينها، كتاب (صناعة القرارفي روسيا والعلاقات العربية – الروسية) لنورهان الشيخ 1998 المشير للدور الفاعل لروسيا في النظام الدولي الراهن ذات المقعد الدائم في مجلس الأمن، وكتاب (العلاقات الروسية - العربية في القرن العشرين وافاقها 2001) لجورج شكري كتن الموضح للدور المهم لروسيا في تطوير منطقتنا العربية، وكتاب (الثقافات العربية والروسية اليوم – أقلام روسية 2006) الذي يوضح خصوصيتها منذ عهد بطرس الأكبر، وكتاب (مدخل إلى تاريخ الدراسات العربية والإسلامية في روسيا) لمؤلفه إلياس بلكا 2016، وكتاب (من لينين إلى بوتين) لكاتبه أليكسي فاسيليف، يرصد فيه كيف تحولت السياسية الخارجية الروسية لمحط أنظار العالم، وغيرها كثير. ويعتبر العرب الروس والسوفييت الأقرب إليهم وكذلك الروس في تعاملهم مع العرب، وانفتاح عربي على العالم يماثل انفتاح روسيا بنفس الاتجاه أيضا.
روسيا الاتحادية ميزان دولي استراتيجي هام الان يصعب إغفاله، ويصعب تصور العالم من دون روسيا تماما كما صرح بذلك سابقا الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، وهي قطب دولي عملاق في الاقتصاد والسياسة والعسكرة، فهي الأولى على مستوى اقتصاد آسيا، وتمتلك مصادر طبيعية غنية، والأولى في العسكرة النووية، ومتميزة في السلاحين التقليدي والفضائي، وهي منفتحة غير معزولة، وعلاقاتها الدولية واسعة، وعضويتها ورئاستها لتجمع "البريكس"، وعضويتها في تجمع " شنغاهاي "، وقيادتها لصندوق – مؤسسة (روسكي - مير) الهادف لنشر اللغة الروسية في العالم، وقيادة الرئيس بوتين لروسيا بحكمة وفولاذية منذ عام 2000، ووجود سيرجي لافروف وبقوة وحنكة ملاحظة على رأس الدبلوماسية الروسية، والتوجه الروسي صوب قيادة عالم متعدد الأقطاب، كلها مؤشرات على قوة الدور الروسي وسط خارطة العالم. ويقابل هذه المعادلة قطب عربي عملاق وثري على مستوى الاقتصاد، ويجتمع تحت مظلة الجامعة العربية في القاهرة، وهي المحتاجة لتفعيل دورها لتحقيق حلم العرب في الوحدة الحقيقية والقوة غير التقليدية أسوة بكبريات أقطاب العالم مثل روسيا، وأمريكا، والصين، وأوروبا. ولم يعد الرهاب الروسي ورغم أنه غير مبرر أن يشكل حاجزا بين العرب وروسيا وبالعكس، فنهوض روسيا المستمر فيه نهوض للعرب، وفي نهوض العرب نهوض لروسيا، ومثل هكذا توجه لا يمنع التعاون مع دول العالم كافة.
لا يوجد في السياسة ثبات، وتعودنا نحن العرب على رسم بياني وخارطة رملية متغيرة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبالعكس، وزيارات رئاسية متبادلة، واستقرار سياسي روسي – أمريكي بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي، ثم انحدار سريع سببه تحريك شعلة الحرب الأوكرانية من قبل بريطانيا – باريس جونسون، وأمريكا – جو بايدن من وسط انقلاب "كييف" الدموي " عام 2014 في محاولة لجر الغرب كله إلى حالة صراع مع روسيا الاتحادية، ومع دول العالم، ومنها الدول العربية، لكن العرب وعبر جامعتهم العربية وفرادى اختاروا الحياد، والحوار بين روسيا العظمى وبين دولة "كييف" التي أصبحت بعد تحرير روسيا لمجموعة أقاليم أوكرانية سابقة مثل " القرم، ولوغانسك ودونيتسك "الدونباس"، وزاباروجاوخيرسون، والمضي عسكريا قدما إلى الأمام للوصول إلى نهر الدنيبر لحماية الدونباس وتحصينه، وبعد ظهور نتيجة صناديق إقتراع القرم وشرق أوكرنيا لصالح الانضمام لروسيا، تمثل غرب أوكرانيا فقط.
لقد حاولت أمريكا حديثا وعبر العاصمة "كييف" ووزير خارجيتها أندري سيبيغا دق إسفين بين سوريا الحديثة بعد سقوط نظام بشار الأسد بتاريخ 8 ديسمبر 2024 وبين روسيا الاتحادية، ومحاولة اقناع دمشق للتخلص من الحضور الروسي وقواعده العسكرية على غرار ما فعلته تماما عام 2014 عندما دفعت أمريكا بإتجاه التخلص من آخر نظام أوكراني موالٍ لروسيا بقيادة فيكتور يونوكوفيج، ومن الحضور الروسي هناك، لكن المشاريع الأمريكية انكشفت لوجستيا ومبكرا، وواصلت القيادة الروسية عبركبير مستشاري قصر "الكرملين" يوري أوشاكوف بفتح قنوات إتصال مع قيادة دمشق الجديدة لتسوية ملف العلاقات الروسية – السورية، وهو الذي أكده سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا. وأمثلة النخر الأمريكي في العلاقات العربية – الروسية عديدة ويصعب حصرها في مقالة، وللحديث بقية