مدار الساعة- كتب-عبدالله الطائي- ما تزال المفاوضات جارية بين حماس وإسرائيل، وما تزال قبلة الحياة تُمنح لمسار التفاوض في كل لحظة كانت تلفظ فيها أنفاسها الأخيرة، إلا أن جدية الطرف الفلسطيني المتمثل بحماس وجدية الأطراف الإقليمية والدولية، لا تُقابل -حتى الآن- بتعاطي إسرائيليّ إيجابي؛ ففائض القوة الذي تشعر به إسرائيل داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، قادت نتنياهو وطاقمه المتطرف إلى تطبيق ما فكروا فيه خلال سنين طوال، في كيفية طرد أكبر عدد من الفلسطينيين من أرضهم، لا بناء دولتهم المستقلة جنبًا إلى جنب مع إسرائيل أو القبول بفكرة حل الدولة الواحدة الديمقراطية التي سيقف فيها نتنياهو وفريقه موقف المتفرج في ظل وجود أغلبية ديموغرافية فلسطينية تكبّل السياسات الإسرائيلية.
استمعت واستمتعت وأُحبطت في آن معًا، أمس الأحد، لمناقشة أطروحة الدكتوراة للدكتورة رشا فتيان سليم، المديرة التنفيذية لمعهد السياسة والمجتمع، في الجامعة الأردنية، التي قدمت دراسة استشرافية لخيارات حل الدولتين وحل الدولة وانعكاسات ذلك على مستقبل القضية الفلسطينية، استخدمت فيها منهجًا متخصصًا في قضايا الصراع والنزاع بالاستعانة بنظرية اللعبة Game Theory، والمنطقة المحتملة للاتفاق ZOPA.
ما هو مهم في هذه الدراسة هو سؤال الجدوى والممكن في إقامة الحلين -حل الدولتين وحل الدولة الواحدة- ليس من زاوية الفلسطينيين والأطراف الإقليمية الأكثر اشتباكًا فيها فقط، بل وفقًا للديناميكيات على الأرض والإيغال الإسرائيلي في الدم الفلسطيني والرغبة الجامحة في تهجير الفلسطينيين عبر الاستيطان والعنف والذي تزامن معه قانون يهودية الدولة الذي يجعل من مصير أحلام التعددية داخل إسرائيل هباءً منثورًا.
ما يميز الدراسة أنها حاولت عدم الاكتفاء بالنظريات التقليدية بل تجاوزت الأمر إلى نظريات حديثة رياضيّة تدرّس في جامعات عالمية كبرى لتحليل الصراعات، آخذةً بعين الاعتبار المعطيات الجديدة ومستجدات التحولات، وما أفضت إليه الساحة الإقليمية والساحة الإسرائيلية والموقف الدولي ومن قبلهما الانقسام الفلسطيني الذي يعزف أطرافه عن الاتفاق، رغم قسوة المشاهد القادمة من غزة والعنف المتصاعد في مدن الضفة الغربية والاقتحامات الإسرائيلية التي باتت جزءًا من روتين الحياة اليومية، تلك المآسي التي تتطلب تكاتف الجهود وتوحيد الموقف في ظل هذا الظرف العصيب من عمر فلسطين والمنطقة، ما تزال الأطراف الفلسطينية تتصارع فيما بينها إما لحفظ الوجود أو كسب مغانم.
من خلال هذه الدراسة، تصل فتيان ومن خلال المنهجية العلمية المستخدمة إلى نتائج مفادها، أن سيناريو حل الدولتين يواجه عقبات جوهرية رغم كونه الأكثر دعمًا وترديدًا على المستويين الدولي والإقليمي، بل بعض الدول العربية بدت وكأنها ما تزال تتمسك بهذا الخيار وترفض التفكير بسيناريوهات أخرى وليس بحلول بديلة. كما توصلت إلى أن حل الدولة الواحدة الديمقراطية يشكل استحالة ما دامت منطقة الاتفاق تكاد تكون خالية، بل إن السيناريو الإسرائيلي ماضٍ نحو خيار الدولة الواحدة المهجّرة لأكبر عدد من الفلسطينيين أو المهمّشة لمن تبقّى.
لعل من يقرأ هذه النتائج ومن خلال هذا المقال، يجد أن الأمر بدهيّ، إلا أن الأهمية تكمن في علمية الطرح لا الانطباعات التي تحكم الكثير من العوام وبعض النخب ولربما أحيانًا صنّاع القرار، وتحديد العوامل المؤثرة والمسببة في فشل كل من الحلول المطروحة. قد يستغرب البعض، لكن في السنوات الأخيرة، شهد خيار حل الدولة الواحدة، مثلًا، طرحًا مكثّفًا من نخب عربية وأجنبية، كسبيل وحيد لإحراج إسرائيل بالأغلبية الديموغرافية من منطلق أن أي سلوك ضد الفلسطينيين سيفسر على أنه نظام فصل عنصري، ومثّل نضال جنوب أفريقيا نموذجًا ملهمًا، وإبرة بنج في أحيان كثيرة، إلا أن هذا الحل أيضًا يوشك أن يكون مستحيلاً أيضًا، بعد ما أفرزته واقعة "السابع من أكتوبر" من مواقف وسياسات إسرائيلية ودولية.
لربما أن القارئ للأطروحة سيجد من ورائها دعوة للاستغناء عن حالة الانكار للواقع و لا ترف في الوقت لعدم مواجهة الحقيقة، خاصة من الجانب الفلسطيني وبعض الأطراف الإقليمية العربية، التي ما تزال تتمسك بخطابات توصف بأنها "تقليدية"، بل عليها اليوم المضي قدمًا نحو إعادة التقييم الاستراتيجي لما وصل إليه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وما آلت إليه الأمور على الأرض، وأن الأوضاع التي وصلت إليها القضية الفلسطينية تستلزم التفكير الجدي بسؤال الجدوى وسؤال الممكن فيما هو مطروح وعدم المراهنة على الوقت الذي لطالما كان من صالح الإسرائيلي، فقد أبدى الأخير خاصة في العقدين الأخيرين وبصورة واضحة وصريحة ومع أفول ما تسمى بـ "قوى اليسار-الاعتدال" أنه لا يقبل الفلسطيني ولن يتقبله، وأنه ماضٍ نحو مشاريعه التوسعية، بل إن ما حققه من مكاسب جعله يمضي لتغيير المعادلة الخارجية الإقليمية وعدم الاكتفاء بتغيير المعادلة الداخلية.
هذه ليست دعوة للإحباط والتشاؤم، لكن هذا ما يقوله الواقع، وهذا ما يراه العلم وفقًا لأطروحة رشا فتيان ...