يمر الأردن بمرحلة تاريخية بالغة الحساسية نتيجة التحولات الإقليمية والدولية، حيث يشكل تصاعد اليمين المتطرف في الكيان الصهيوني تحدياً مباشراً لاستقراره ودوره الإقليمي؛ فشخصيات مثل إيتمار بن غفير، المعروف بخطابه العدائي، تعكس توجهاً سياسياً يسعى إلى تقويض أسس الوضع الراهن، بدءاً من القدس وانتهاءً بالضفة الغربية؛ فالاستفزازات الإسرائيلية تتخذ أشكالاً متعددة، من انتهاكات بحق المقدسات الإسلامية والمسيحية، إلى مناورات عسكرية على الحدود الأردنية؛ هذه التحركات ليست عشوائية، بل تأتي ضمن استراتيجية صهيونية ترمي إلى تهميش الدور الأردني كوصي على المقدسات في القدس وكلاعب محوري في الإقليم.
لكن في السياق الدولي المعقد، تبرز العلاقة الأردنية الأمريكية كعامل حاسم؛ صحيح أن التحولات الداخلية في الولايات المتحدة قد تضعف التركيز على المنطقة، إلا أن الحديث عن تراجع كامل للدور الأمريكي يُعد مبالغة؛ الأردن لديه قنوات تعاون قوية مع واشنطن، سواء في ملفات مكافحة الإرهاب أو في الشأن السوري والعراقي كما هو في الشأن الفلسطيني؛ ومع ذلك، يبقى التحدي الحقيقي متمثلاً في عودة دونالد ترامب إلى السلطة، وهي عودة تعيد تشكيل الأولويات الأمريكية بطريقة لا تخدم المصالح الأردنية؛ لذلك، يتطلب الأمر من عمّان استراتيجية استباقية تركز على بناء علاقات مع أطراف متعددة داخل النظام السياسي الأمريكي، بما في ذلك الحزب الجمهوري، لضمان بقاء المصالح الأردنية على طاولة النقاش؛ وهذا ما حصل فعلاً منذ سنين وليس بسبب عودة الدب الهائج.
الأردن ليس جزيرة معزولة عن محيطه الإقليمي؛ التدخلات الإيرانية في المنطقة، وتحديداً في لبنان وسوريا والعراق (الهلال الشيعي الذي سعى للوصول الى غزة)، نعم انه سقط في سوريا وغزة وجنوب لبنان؛ إلا أنه لا يزال يشكل مصدر قلق دائم لعدم التخلص من ميليشياته بشكل كامل في المنطقة، ناهيكم عن سعي تركيا لفرض حضورها كقوة اقتصادية وسياسية مؤثرة وهذا ما حدث في الآونة الأخيرة في سوريا، ودعمها لتنظيم الاخوان المسلمين المنبوذ من العديد من الدول العربية والاسلامية؛ فالتعامل مع هذه القوى يتطلب براعة دبلوماسية تُوازن بين المخاطر والمكاسب؛ وهذا ما يُشهد به للأردن وقيادته؛ فبعد سقوط النظام في سوريا؛ اثبت الأردن مرونته وحنكته الدبلوماسية وحث الدول العربية والإسلامية والدولية للتعاون ودعم إرادة الشعب السوري؛ ناهيك عن التعاون مع سوريا في قضايا مثل أمن الحدود ومكافحة الإرهاب، وهذا سيحقق مصالح مشتركة، بينما تعزيز العلاقات مع تركيا قد يوفر فرصاً اقتصادية تحتاجها كل من أنقرة وعمان بشدة.
أما على الساحة الدولية، فالأردن مطالب بتكثيف جهوده لبناء تحالفات مع دول تؤمن بأهمية استقرار المنطقة؛ كتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني مع شركاء الدم والمصير مثل المملكة العربية السعودية، مصر، الامارات والكويت، والاصدقاء في الاتحاد الأوروبي، وتوسيع قاعدة العلاقات مع القوى الصاعدة كالصين وروسيا؛ كل ذلك يمنح عمان مساحة للمناورة؛ في الوقت نفسه، يجب أن تبقى القضية الفلسطينية محوراً أساسياً في السياسة الأردنية، ليس فقط كالتزام انساني أخلاقي بل كضرورة استراتيجية لضمان استقرار الحدود ومستقبل المنطقة.
في المقابل وفي ظل هذه التحديات التي نقر بها ولا نُهوِّلُها، نوجّه البوصلة نحو السلاح الأردني الأقوى ألا وهو الداخل الأردني؛ فمواجهة الضغوط الخارجية تتطلب إصلاحات جذرية تبدأ بتعزيز الحوار الوطني، وأن يكون الأردن أولاً قولاً وفعلاً؛ ومكافحة الفساد بشكل حقيقي وشفاف، وتطوير اقتصاد قادر على تلبية احتياجات المواطنين، والاستماع للمقترحات ومقدميها وعدم تهميش أفكار دافعي الضرائب؛ وأن تكون هذه الخطوات ليست مجرد حلول آنية، بل أساس لتعزيز بناء الدولة الأردنية القوية القادرة على الصمود أمام التحديات الإقليمية متى حلّت به.
أما على الجانب الصهيوني، فلا يمكن اختزال المشهد في صعود اليمين المتطرف؛ هناك أصوات إسرائيلية معتدلة تُدرك أهمية الحفاظ على اتفاقية السلام مع الأردن ومصر تحديداً، ووجود هذه الأصوات يمثل فرصة يمكن استغلالها عبر قنوات دبلوماسية مدروسة؛ كما أنهم يدركون جيداً أن بقاء اليمين المتطرف حاكماً لكيانهم؛ يعني اعلان صريح بنهايتهم قريباً في المنطقة.
يعلم الجميع في المنطقة والعالم أن الاردن رغم التحديات، يمتلك أوراق قوة يستثمرها بحكمة ورجاحة عقل؛ تتمثل بالتوازن بين الانفتاح الإقليمي والدولي، وتعزيز الداخل، ودبلوماسية نشطة يرأسها رأس الهرم؛ تركز على المصالح الوطنية، فهذه الاوراق هي السبيل الوحيد لضمان استقرار الدولة الأردنية وتعزيز مكانتها كركيزة أساسية في الشرق الأوسط؛ وللعلم، لطالما كان الرهان على الحكمة الأردنية في محله، وسيبقى كذلك في مواجهة هذا المنعطف الحرج وغيره... نحن دولة ولدنا من النار وفيها.. لم ولن نحترق.