تقرير ديوان المحاسبة لعام 2023 يعكس منهجية جديدة ومتطورة في التعامل مع الرقابة المالية والإدارية في مؤسسات الدولة الأردنية، فالتقرير يظهر نقلة نوعية من حيث التصويب العملي للملاحظات، وزيادة في الإنتاجية الرقابية، وتحسنا ملموسا في التعاون بين المؤسسات الخاضعة للرقابة وديوان المحاسبة، ما يشير إلى تطور في الوعي الرقابي على المستويين المؤسسي والحكومي. بلغ عدد المخالفات التي تم رصدها 4883 مخالفة، وهو انخفاض ملحوظ مقارنة بالعام الماضي الذي سجل 5087 مخالفة، ورغم زيادة عدد المخرجات الرقابية بنسبة 11 % هذا العام لتصل إلى 417 مخرجًا رقابيًا، انخفض عدد المخالفات، مما يشير إلى ارتفاع مستوى الالتزام والتصويب داخل المؤسسات. وهذا التحسن يعكس دور الرقابة المستمرة، والتدقيق الذي لا يكتفي بالإشارة إلى الأخطاء، بل يسهم في معالجتها وتلافيها مستقبلًا.
أحد أبرز مؤشرات التقرير هو الزيادة في الجهد الرقابي، حيث ارتفعت ساعات العمل الرقابية من 418 ألف ساعة إلى 433 ألف ساعة، هذه الزيادة، المدعومة بجهود 320 مدققًا، تدل على تكثيف الرقابة وتوسيع نطاقها، مما أتاح تحقيق وفورات مالية بلغت 29.3 مليون دينار. ورغم أن هذا الرقم أقل مقارنة بالعام السابق (102 مليون دينار)، إلا أن هذا الفارق لا يعكس ضعفًا في الأداء، بل يشير إلى التزام أكبر من قبل المؤسسات بتصويب المخالفات وتقليل الهدر المالي بشكل مسبق. نوعية المخالفات التي ركز عليها التقرير تشمل تجاوزات متعلقة بالتشريعات، خاصة في البلديات التي لا تزال تتصدر قائمة المؤسسات الأكثر مخالفة، رغم تحسن أدائها بنسبة 5 % مقارنة بالعام الماضي.
وهذه المخالفات تتنوع بين إدارية ومالية، وتشمل مخالفات تتعلق باستخدام المركبات الحكومية، وتأخير توريد مستحقات الضمان الاجتماعي، وإهدار المال العام في بعض المؤسسات. وفي المقابل، سجلت قطاعات كالجامعات والمدارس تحسنًا ملحوظًا في الامتثال للتشريعات، حيث انخفضت نسبة مخالفاتها إلى 3 % مقارنة بـ22 % في الأعوام السابقة. من القضايا المهمة التي تناولها التقرير أيضًا هي تحسين وحدات الرقابة الداخلية في المؤسسات الحكومية، حيث يرى ديوان المحاسبة ضرورة تمكين هذه الوحدات من العمل باستقلالية أكبر، وتقليل الاعتماد على التدقيق المسبق الذي يمارسه الديوان. وهذا النهج يتماشى مع المعايير الدولية التي تفصل بين الرقابة الداخلية والتدقيق الخارجي، بهدف تحسين كفاءة الرقابة وتعزيز الحوكمة المؤسسية، فالتقرير أشار إلى جهود تقييم نظم الرقابة الداخلية في أكثر من 60 مؤسسة حكومية وشركة مملوكة للحكومة، مع تقديم توصيات لتحسين هذه النظم، وتدريب الكوادر العاملة فيها. رغم كل التحسن، لا تزال هناك تحديات تواجه المؤسسات الحكومية في الأردن، فبعض المخالفات المتكررة، مثل تأخر توريد مستحقات الضمان الاجتماعي، تعكس غياب التخطيط المالي السليم، مما يفرض عبئًا إضافيًا على الدولة. وهذه الممارسات قد تؤدي إلى إهدار موارد قيمة، وتضعف من قدرة صندوق الضمان الاجتماعي على الوفاء بالتزاماته، كذلك، تستمر بعض المؤسسات في إبداء ردود غير كافية لتصويب ملاحظات الديوان، مما يطيل من أمد المتابعة، ويعكس الحاجة إلى تعزيز الالتزام المؤسسي بالرقابة. فيما يخص الشكاوى الواردة من المواطنين، تعامل الديوان مع 486 شكوى خلال عام 2023، مما يعكس ارتفاعًا بنسبة ملحوظة مقارنة بالعام السابق، ورغم ذلك، فإن 14 % فقط من هذه الشكاوى أسفرت عن مخرجات رقابية.
وهذا يعكس أهمية تعزيز الوعي المجتمعي حول تقديم شكاوى مدعومة بالأدلة، بما يضمن فاعلية المتابعة. باختصار، تقرير ديوان المحاسبة لعام 2023 يعكس روحًا إيجابية في التعامل مع الرقابة، فهو ليس مجرد وثيقة لرصد الأخطاء، بل هو أداة لتعزيز الشفافية والحوكمة في مؤسسات الدولة. والتحسن الملحوظ في تصويب المخالفات، والانخفاض التدريجي في عددها، يعكسان تطورًا في الأداء المؤسسي، ويؤكدان أهمية الرقابة كجزء أساسي من إدارة الدولة الحديثة. هذا التقرير ليس نهاية المطاف، بل بداية لتحسين مستمر يضع الأردن على مسار أكثر شفافية وكفاءة.