منذ سيطرة المعارضة السوريّة على مقاليد الحكم في سوريا لم تتوقف دول الغرب عن إطلاق التصريحات المختلفة وتحديد مطالبها من النظام الحاكم الجديد، وهي تصريحات تبطن شيئاً من الإملاءات والتهديدات لكنها مغلّفة بشعارات العدل والحريّة والمساواة وحقوق المرأة وحقوق الأقليّات والسلام، كما أنّها تستخدم صوراً من الإغراء بالمال والدعم والمساعدات الإنسانية ورفع العقوبات المفروضة سابقاً على سوريا.
وقد تجاوز المسؤولون الغربيّون الأميركان والبريطانيون والفرنسيّون والألمان والاتحاد الأوروبي وسواهم حدود التأدّب أحياناً بما يمكن وصفه بالتدخّل السافر والوقح في الشؤون السوريّة، وفي ذلك إهانةٌ للدولة السوريّة واستخفاف بعقول السوريّين.
ومن يتأمّل هذه التصريحات يستطيع أن يشتمّ منها رائحة دعم الكيان الصهيوني وحمايته من أي تهديد أو خطر قد يأتيه من جهة سوريا، كما يمكن أن يشتمّ منها رائحة التعطّش لإعادة الهيمنة والاستعمار للأراضي السوريّة.
ومن التصريحات التي لا يخفى ما تتضمّنه من رغبة بالاستيلاء على مقدّرات الشعب السوري ما صرّح به وزير الدفاع الألماني يوم الأربعاء 18/ 12/ 2024 حين قال: كأوروبيّين يجب أن يكون لنا حضور في سوريا والعراق دون تدخّل عسكري مباشر.
وفي رأيي أنّ هذا التصريح الذي يصدر عن وزير دفاع وليس وزير خارجية فية قدرٌ كبيرٌ من الخطورة، لأنّه يدعو دول الاتحاد الأوروبي إلى أن يكون لها موطء قدم في سوريا وفي العراق، ويفهم من قوله «دون تدخّل عسكري مباشر» أنّه يمكن أن يكون لهذه الدول تدخّل عسكري غير مباشر، ولا يمكن فهم التدخّل العسكري غير المباشر إلاّ عن طريق دعم تنظيمات أو فصائل معارضة أو ما يشبه ذلك. والخطورة في هذا التصريح أن وزير الدفاع الألماني يريد أن يقرّر أموراً تتّصل بدولتين عربيتين وكأنّه لا علاقة لهما بما يقرّر، وهذه درجة بالغة السوء من الاستخفاف بهاتين الدولتين.
ومن التصريحات التي تؤكّد حرص الدول الغربيّة، من خلال تدخّلها في الشأن السوري، على حماية الكيان الصهيوني وضمان أمنه وعدم تعرّضه لأيّ خطر أو تهديد من جرّاء التحوّلات التي وقعت في سوريا، ما صدر عن وزارة الخارجية الأميركية يوم الأربعاء الماضي 18/ 12/ 2024 من قولها: إنّها تريد استقراراً دائماً بين سوريا وإسرائيل وأنها تأمل أن يتم احترام اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. ويصرّح معظم المسؤولين الأميركيين في مستوياتهم المختلفة أنّهم لن يعترفوا بالإدارة السورية الجديدة إلاّ بعد تنفيذها توقّعات معيّنة كثيرة، وما هذه التوقّعات في نظري إلاّاشتراطات تحاول الإدارة الأمريكية فرضها على السوريّين.
وقد أطلق المسؤولون الغربيّون منذ التحوّل الذي حدث في سوريا طوفاناً من التصريحات ما بين تحذيرات وتهديدات ومطالب وتوقّعات وتخوّفات وتقديم نصائح وإملاءات تصبّ كلّها في خدمة بلدانهم وتكشف عن أطماعهم وسوء نواياهم ومحاولاتهم لانتهاز الفرصة لتحقيق مكاسب لهم، ولم تُخْفِ الولايات المتّحدة على وجه الخصوص نيّتها الاستمرار في دعم فصائل بعينها تحت ذريعة الاستمرار في الحرب على تنظيم الدولة، حيث أنّ مجرّد دعم أي فصيل تحت أيّ ذريعة يتنافى مع الدعوة إلى وحدة الأراضي السوريّة ويشجع فكرة تقسيم سوريا بين المكوّنات المختلفة.
كما أنّ مواصلة المسؤولين الغربيين الحديث عن مخاوف وعن مخاطر متوقّعة وعن مستقبل ما يسمّونه الأقليات ينطوي في أعماقه على صورة من صور التحريض الخفيّ لهذه المكوّنات ضدّ الإدارة الجديدة.
إنّ الوفود الأوروبيّة والأميركية المتدفقة على دمشق لا تبعث على الطمأنينة وإن كانت كلّها تزعم الرغبة في تقديم المساعدة للإدارة الجديدة، ولو كان ما تزعمه صحيحاً لكان الأولى بها أن تعترض على ما أقدمت عليه دولة الاحتلال الصهيوني من احتلال أراضٍ سوريّة جديدة بعد انهيار النظام، بل إننا لم نسمع من أيّ بلدٍ من هذه البلدان من يطالب الكيان الصهيوني بالانسحاب الفوري والعاجل من الأراضي السوريّة بالحماسة نفسها التي يطالبون فيها الإدارة السورية الجديدة بتحقيق مطالبهم وإملاءاتهم، كما أنّ الأولى بهذه الدول أن تعمل كلّ ما في وسعها لإيقاف حرب الإبادة التي يشنّها الصهاينة على أهل غزّة، أو أن توقف دعمها العسكري والماليّ والسياسي للكيان الصهيوني.
وعليه فإنني أتمنى أن تأخذ الإدارة السورية الجديدة الحذر الشديد من محاولات التدخّل الأجنبية هذه، وألا ترضخ للضغوط الغربيّة، وألا تتنازل عن وحدة الأراضي السوريّة، وعن انسحاب القوات الصهيونية من الأراضي السورية، وعن المحافظة على علاقات الأخوة والتعاون مع الدول العربيّة والإسلامية المجاورة، وعن عدم التطبيع مع الكيان الصهيوني.
Salahjarrar@hotmail.com