السياسة ليست مجرد شعارات تتناثر على طاولة الأحداث، بل هي قراءة دقيقة للواقع وصياغة مدروسة للمستقبل. وهنا يتجلى الدور الأردني في الملف السوري كواحد من أهم الأمثلة على السياسة الإقليمية الرصينة التي تنطلق من الثوابت الوطنية وتقرأ المتغيرات بحكمة ووعي.
لم تكن العلاقة بين الأردن وسوريا في يومٍ من الأيام علاقة عابرة تخضع لحسابات الربح والخسارة قصيرة المدى. هي علاقة فرضتها الجغرافيا قبل أن يعيد تشكيلها التاريخ، وعززتها المصالح المشتركة التي تتقاطع عند خطوط الحدود وتتشابك في تفاصيل الأمن والاستقرار.
عندما اندلعت الأزمة السورية، اختار الأردن موقفًا بالغ التعقيد والدقة: الانحياز إلى إرادة الشعب السوري، مع الحفاظ على سياسة متوازنة لا تُغرق البلاد في مستنقع الصراعات. لم يكن هذا الخيار سهلًا، لكنه كان الخيار الوحيد الذي يليق بدولة ترى في الدبلوماسية أداة بناء وليست وسيلة هدم.
في السياسة، ليست الخطوات العلنية هي الأهم دائمًا، بل ما تحمله من رسائل عميقة. إعادة فتح معبر جابر بين الأردن وسوريا عام 2021 كان خطوة تتجاوز البعد الاقتصادي لتصل إلى مستوى الرسائل السياسية الرفيعة.
لقد أراد الأردن أن يقول للعالم إن دمشق لا يمكن أن تُترك وحدها في مواجهة الأزمات، وأن عزل سوريا عن محيطها العربي لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة. وربما لم تكن هذه الرسالة موجهة إلى دمشق وحدها، بل إلى أطراف دولية وإقليمية كانت تراهن على استمرار العزلة.
زيارة وزير الخارجية الأردني إلى دمشق امس هي امتداد لهذا النهج المدروس. لكنها في الوقت ذاته تحمل في طياتها فهمًا أعمق لديناميكيات المنطقة.
هذه الزيارة ليست مجرد لقاء سياسي بروتوكولي؛ إنها جزء من رؤية استراتيجية شاملة تسعى لإعادة سوريا إلى قلب المعادلة العربية. الأردن يدرك أن استقرار سوريا هو مفتاح لاستقرار المنطقة، وأن أي مشروع للإصلاح السياسي أو إعادة الإعمار لا بد أن يمر عبر بوابة التنسيق العربي.
السياسة الأردنية هنا تبرز كأنموذج لفن الممكن: موقف مبدئي ثابت لا يساوم على المصالح الوطنية، لكنه في الوقت ذاته يترك مساحة للمناورة الإيجابية التي تخدم الجميع.
في قراءة دقيقة للتحركات الأردنية تجاه سوريا، نجد أن المملكة لا تسعى إلى لعب دور الوصي أو المتحكم، بل الشريك الذي يدعم دون أن يتدخل، ويقود دون أن يفرض.
هذا النهج يبرز بشكل واضح في الاجتماعات الدولية والعربية التي استضافتها العقبة لدعم استقرار سوريا. الأردن، الذي عانى نفسه من تبعات الأزمة، من أزمة اللاجئين إلى التحديات الأمنية، يدرك أن الحلول لا تأتي من الخارج، بل من الداخل السوري وبالتعاون مع محيطه العربي.
المعادلة الجديدة التي ترسمها التحركات الأردنية تتلخص في كلمة واحدة: التوازن. التوازن بين احترام سيادة الدول ودعم تطلعات الشعوب. التوازن بين المصالح الوطنية والواجب القومي.
الأردن لا يقرأ السياسة من منظور ضيق أو مرحلي، بل ينظر إلى المستقبل بعين ترى في استقرار سوريا فرصةً لإعادة صياغة خارطة المنطقة بأكملها، لتكون أكثر استقرارًا وأقل تصادمًا.
في عالم يموج بالصراعات والمزايدات، يقدم الأردن درسًا في كيف تكون السياسة حكمة ومسؤولية. زيارته إلى دمشق اليوم ليست مجرد حدث عابر، بل رسالة تحمل أبعادًا أعمق من مجرد اللقاءات الدبلوماسية.
هي دعوة لكل الأطراف بأن لغة الحوار هي الخيار الوحيد الذي يليق بالمنطقة، وأن استقرار سوريا ليس فقط مسؤولية سوريا، بل مسؤولية جماعية لكل من يؤمن بأن الأوطان تُبنى بالتكاتف لا بالتنازع.
السياسة الأردنية تجاه سوريا هي في جوهرها دعوة لمشروع عربي جديد، مشروع يُعيد للأمة وحدتها وللشعوب كرامتها. إنها سياسة تُقرأ بين السطور، وتُكتب للتاريخ.