هل يحتاج مشروع التحديث السياسي إلى "تعديل مسار " لكي يستمر ويحقق المطلوب منه ؟ أعتقد نعم ، التصريحات الأخيرة لرئيس اللجنة الملكية ( شُكّلت قبل نحو ثلاثة أعوام ونصف ،حزيران 2021 )، سمير الرفاعي، حول حصاد التجربة ، تؤكد أننا بحاجة إلى مراجعات عميقة ، الرفاعي لم يُؤبّن عملية التحديث السياسي ، ولكنه كشف لنا الأخطاء التي حصلت، والنتيجة التي انتهت إليها الأحزاب ، الأردنيون ، ايضاً، يعرفون ذلك تماما.
لا بأس ، صدمة نتائج الانتخابات البرلمانية فتحت أعين الجميع على ما يلي، أولا : حالة البلاد وما جرى من تحولات داخل المجتمع الأردني ، خاصة بعد الحرب على غزة ،ثانيا : التجربة الحزبية الوليدة ؛ اللاعبون الذين تصدروا مشهدها وتقاسموا غنائمها ، القائمون على إدارة ملف تشكيل الأحزاب ، ثالثا : تواضع أداء الطبقة السياسية وعمق فجوة الثقة بين الأردنيين وبين نخبهم ، هنا يكفي أن أشير إلى أن نحو 260,000 أردني توجهوا إلى صناديق الانتخاب، ووضعوا أوراقا بيضاء ، عازفين عن انتخاب أي حزب سياسي على قائمة الترشح.
بصراحة ، لم اتفاجأ من المشهد كله ، سبق وكتبت عشرات المقالات المنشورة عن التجربة منذ بداياتها ، عن المال السياسي وشراء المقاعد (ادفع واكسب مقعداً في البرلمان) ، عن غياب البرامج الحزبية (تريدون أصواتنا مقابل ماذا ؟)، عن ضرورة تقييم التجربة الحزبية (مرحبا بلجنة تقييم التجربة)، عن توزيع المقاعد القيادية داخل الأحزاب ( ويسألونك عن الجغرافيا الحزبية )، عن غياب الانتخابات داخل الأحزاب ( أحزاب بلا صناديق انتخاب).. كل هذه المقالات وغيرها حملت ما لدي ، ولدى الأردنيين ، من رسائل لاستدراك الأخطاء ، وتصويب المسارات ، لكنها للأسف ظلت حبرا على ورق ، وحده الذي تحقق هو محاسبة بعض الذين اشرفوا على إدارة الملف ، وكنت اشرت لذلك في مقال (أعين الدولة مفتوحة وغداً لناظره قريب ) المنشور 29/7/2024.
ما علينا، الآن ، حسب معلومات مؤكدة ، بدأت منذ شهرين نقاشات داخل إدارات الدولة حول ما جرى على صعيد مسار التحديث السياسي ، و الأحزاب ونتائج الانتخابات ، في آخر اجتماع تمّ عرض مقترحات لتعديل قانون الانتخاب ، وتصورات لإعادة إنعاش التجربة الحزبية ، وتجاوز الأسباب التي اربكت انطلاقتها ومسيرتها ، المهم أننا- على ما يبدو- تجاوزنا مربع تبادل الاتهامات عن المسؤول/ ين عن تعثر المسار ، وبدأنا بنقطتين مهمتين:
الأولى : الاصرار على المضي قدما بمشروع التحديث السياسي ، ورفض الدعوات التي طُرحت لوقفه أو التراجع عنه ، الثانية : إجراء ما يلزم من تعديلات لمساره، بحيث نضمن نتائج تتناسب مع طموحات الأردنيين ، ومع الظروف والمستجدات القادمة ، هذا بالطبع يحتاج إلى عمل طويل ومقاربات عملية جادة ، أهمها إقناع الأردنيين وأعاده الثقة إليهم، ورفع الوصايات عنهم، ثم تقديم مشروع وطني يحظى بتوافقهم ، ويعبر عن مصالح الدولة الأردنية وهويتها، ويفرز أفضل ما لدينا من مضامين وأدوات ، تصلح أن تكون روافع للدولة في مواجهة الأخطار القادمة.
صحيح ، إنعاش مسار التحديث السياسي مهم ، و تصحيح ما أمكن من إفرازاته مهم أيضا ، كما أن دعم عملية التحديث الاقتصادي والإداري التي باشرتها حكومة الدكتور حسان ، في سياق الاستدارة للداخل ، مهم وضروري وحققت نجاحات واضحة، لكن الأهم ، بتقديري ، هو بناء توافقات أردنية تبدأ برفع الهمة الوطنية لدى الأردنيين ، وترسيخ انتمائهم لبلدهم ، وتمتين جبهتهم الداخلية ، وإغلاق النوافذ التي قد تتسرب منها أية محاولات لإضعاف الدولة الأردنية ، أو إشغالها بأي قضية خارج اولوياتها ومصالحها العليا.
نحن أمام جبهات مفتوحة على كل المخاطر والاحتمالات ، وأمام تصفيات نهائية لإعادة ترسيم خرائط المنطقة كلها ، وأمام تحولات في السياسة والجغرافيا وتوزيع النفوذ على اللاعبين ، وأمام محاولات للاستفراد وسحب الأدوار واختطاف التحالفات ، وعليه يجب أن نكون بمنتهى الوعي والحذر ، وأن نتعامل بحكمة وعقلانية وهدوء ؛ وحدتنا هي سرّ قوتنا ، التفاف الأردنيين حول دولتهم وقيادتهم هو مركب النجاة الوحيد في هذا البحر (الشرق الأوسطي ) المتلاطم الأمواج.