بعد 12 يوماً من سقوط نظام الأسد الطاغية، شهدنا لوحة فنية شعبية كانت متوارية عن الأنظار لم يكن بوسعها أن تفصح عما يدور ويجول بخلجات نفسها ووجدانها المكبوت، خوفاً من كابوس صيدنايا الذي حمل في ثناياه أرقامًا مجهولة لأشلاءً معروفة، تحت وطأة التعذيب والتنكيل في بوتقة انصهرت بدماء أبرياء وأناس لا يحملون إلا ذنباً واحداً هو قول كلمة:" لا"، في حضرة الديكتاتور.
السواد الفاحم الذي كان متربصاً لمحورية التأمل والتحرر من قضبان وقيود حديدية سوداء اللون معتنقة بمسوغاتٍ وهمية تحت مسمى حماية الوطن، باتت حجة واهية لتشويه واقع أشبه بالخيال، وتقديم سردية لا تشبه السوريين ولا تروي قصصاً وحكايا تعانق وتحاكي طبيعة مجتمع بأطياف وأجانس وعادات متغايرة، والتي كان من الممكن أن تجبل بحبات الفسيفساء البعيدة عن اللون الأحمر الذي كان يرمز بالأصل إلى الحب والجمال!.
السوري اليوم لم يعد يقوى على السكوت، وكشفَ عن واقعه المأزوم وأكد للعالم أجمع بأنه تواق للتغيير، وإن أغلب ما شهدناه في الدراما السورية كانت صورة افتراضية لا تعكس إلا حالاً متشدقاً يروي حدوتة يتم صياغتها في أدراج دائرة الرقابة التي كانت تتبع النظام المخلوع، ويتم احتضانها بعبارات وشعارات، لتكذب على الجميع بأن هذه الدولة تتغنى بالديمقراطية والتعددية ولديها أطياف عديدة من الآراء والدليل السقف الاصطناعي الذي التصق بالدراما السورية على مر السنين، والتي لم تحاكِ يوماً قضية الجولان المحتل، وهذا ما يعزز تلك الفرضية!.
وفي خضم ما حدث لا يكمن أن نتناسى الأعمال الدرامية التي تركت ذكرى مخلدة لن تنسى في مخيلة المشاهد العربي، ضمن قضايا اجتماعية دخلت البيت العربي - دون استئذان- لصدقيتها وجماليتها، ولكن في المحصلة عند ذكر الأعمال التي شهدت الحرب الدائرة على سوريا، سيتم الحديث بالإشارة إليها بعجالة تامة؛ لكون أغلبها كانت مستعمرة من النظام السوري الذي تاجر بهذا الفن على أنه أداة حرب طاحنة.
"الولادة من الخاصرة، وقلم حمرة، وغداً نلتقي، وكسر عظم" جميعها أعمال علقت أجراس الخطر واتسمت بالمكاشفة والمواجهة التي لم ترتبط بالمهادنة والمواربة، وقدمت واقعاً صحيح البت، وصادق المعايير، واعتنق تفاصيل باحتمالات شتى أمام مرد توسد التراب في جوقة عاثها الظلام.
والمفاجئ وغير المستغرب، رائعة ابتسم أيها الجنرال للمخرج عروة محمد والكاتب سامر رضوان، هذا المشروع الذي جابه الظروف العصيبة وكانت مشاركة الممثلين فيه بمثابة قرار مصيري للكشف عن حقائق كانت تعتبر من المحرمات عند القصر الرئاسي، لا ترما أن خلف جدرانه الكثير من الخفايا التي دفع ثمنها الباهظ آلاف السوريون، دون شفقة أو رحمة.
وآثرت قبل أن أتحدث عن إبتسم أيها الجنرال، أن ألتقي بمخرج العمل عروة محمد الشاب السوري الجولاني الذي وقف بالصفوف الأولى منذ اندلاع الثورة لقول كلمة الحق، والدفاع عن قضيته التي تاجر فيها النظام المخلوع خلال خمسة عقود من الزمان.
في جلسة استمرت لنحو 45 دقيقة تحدت مخرج إبتسم أيها الجنرال عن بدايات المشروع الذي كان مكتوباً على الورق وبحاجة لمخرج جريء يتولى مهمة إخراجه؛ لأن المشاركة في هذا العمل كانت بمثابة قرار مصيري.
و"اختيار الممثلين كانت المعضلة الأصعب" لكون الخيارات كانت قليلة بعض الشيء، فهناك ممثلون وافقوا على المشاركة منذ أن ورد لمسامعهم الفكرة؛ استكمالاً لمواقفهم الكبيرة التي بذلوها منذ اليوم الأول، ولكن العدد لم يكفِ؛لتجسيد باقي الشخصيات المكتوبة على الورق، مما أضطر مخرج العمل لاستعانة بممثلين عرب بعد اعتذار عدد هائل من الممثلين السوريين الذين تجنبوا خوض هذه الحرب الشرسة.
والمسلسل الذي هز عرش أركان النظام السوري ودخل تفاصيل القصر الجمهوري وتناولإحداثيات كان عنوانها إراقة الدماء من أجل الوجود، جابه أحلك الظروف بحسب ما أكده مخرج العمل، فكانت عملية البحث عن بيئة تشبه المجتمع السوري بأزقته وشوارعه وأشجاره وأحجاره هي الأصعب والأعقد، بعد تلقي أسرة العمل الرفض بتصوير العمل في عدة مواقع.
فالمعيقات لم تكن سهلة، فمخرج العمل لإيمانه التام بالمشروع جعله يجابه ظروف العمل ويخلق الفرصة من الإمكانيات التي أتيحت أمامه، فكان متأملاً أن يجد مواقع تشبه دمشق العاصمة ويختار خبراء وفنيين، وفريق عمل يعي تفاصيل البيئة السورية،إلا أن هذا لم يتوفر، في ظل الاعتذارات الهائلة التي قدمها الفنانون والفنيون خوفاً من وحشية النظام وتلاشي أحقاده الخفية والمعلنة بذات الوقت.
ولكن عروة تصدىلهذه التفاصيل وقضى وقته بالبحث عن حلول، لهذا المشروع الذي شكل له تحدياً خاصاً، حتى يرى النور، ويحاكي تطلعات وطموحات ملايين الناس، وانتهى المطاف ليكون المسلسل الأجرأ بتاريخ الدراما السورية بلا منازع، وسط قناعة المشاهد المطلقة، على الرغم من أن العمل شابه بعض الملاحظات،ولم يحظَ بالظروف المناسبة والعدد الكافي من الممثلين والفنيين السوريين بحكم تلك المرحلة الراهنة.
وعن الإسقاطات والصور السيميائية التي اختارها العمل لفضح النظام الدموي البائد، استعرض عروة أبرز المواقف التي اقتحمت القصر الرئاسي والعقلية الأمنية للنظام المبنية على التكتلات الطائفية، والتي صنعها حافظ الأسد من أجل تفكيك المجتمع السوري وجعل الناس يخافون من بعضهم البعض، وقام بتوريث ابنه سوريا على الرغم من أن النظام الجمهوري والسن القانونية آنذاك لم يدعما ذلك، لافتاً إلى أن الحلقة السادسة من مسلسل إبتسم أيها الجنرال استفزت عائلة الأسد بأكملها لأنه تطرقت لهذه التفاصيل برمتها.
ولم يخفِ خلال الجلسة الإسقاطات التي تطرق إليها العمل من بينها حادثة مقتل رفيق الحريري التي تورط ماهر الأسد فيها، وسجن صيدنايا الذي تعرض فيه معتقلو الرأي لأبشع أنواع التعذيب والقهر، مشيراً إلى الحلقة التاسعة عشرة التي كشف فيها "وضاح فضل الله" -إحدى شخصيات العمل-، أبشع أنواع التعذيب وجعل المساجين كفئران للتجارب، لأسلحة وأدوية كان يقتنيها النظام، وعند وفاتهم يتم دفنهم بمقابر جماعية.
ومن جانب آخر، أشاد مخرج العمل بالأداء الكبير والمذهل الذي قدمه بطل العمل النجم السوري مكسيم خليل الذي بذل قصارى جهوده؛ لكي يخرج المسلسل إلى النور لإيمانه بالفكرة والمضمون والمجازفة التي يستحقها، على الرغم من جميع الظروف الصعبة التي واجهها العمل.
وعن ضرورة وجود جزء جديد من ابتسم أيها الجنرال بالمسميات وبالشخصوص الحقيقية، اعتبر عروةعدم الجدوى من ذلك، وليس هناك فائدة من إنتاج جزء ثانٍ للعمل، لطالما الجميع شاهد الأحداث الأخيرة من المسلسل على أرض الواقع، وشهد نهاية نظام دموي قائم على الغطرسة والقتل وتجارة المخدرات.
"لا وقت اليوم إلا لقول الحقيقة، فدفعنا ثمن بعدنا عن سوريا؛ لأننا أدلينا بكلمة حقأمام نظام عبودي دمر سوريا بلد الحضارات، واليوم نحتاج لأفلام وثائقية للحديث عن سجون صيدنايا والمقابر الجماعية وضحايا الكيماوي، والفئات التي غيبها النظام السوري عن الدراما وهم: أهالي جولان الذين شاهدوا حافظ الأسد وهو يبيع أراضيهم للعدو؛ لتحقيق مصالحه ووصولاً للسلطة، والأكراد وأهالي ريف حلب وأدلب وحماة، الذين تغيبوا طيلة العقود الماضية عن المشهد الثقافي بفعل فاعل. وفق مخرج إبتسم أيها الجنرال.
وفي نهاية المطاف، اتضح لدى الجميع بأن السوريين تعرفوا على بعضهم البعض عقب الثورة، لأن حزب البعث جند الإعلام والمناهج الدراسية والجامعية وبعض الفنانين لخدمة مصالحه للترويج عن سردياته وفرض قيوداً ومعيقات وعوائق من أجل الدفاع عن وجوده ومضى في سبيله عقوداً عجاف للدفاع عن طموحاته، وما لبث وأن فارق السلطة وتقهقر هذا الجحيم اللاهب وتبدد نحو مصيره الدميم.