عندما سقطت إمبراطورية بشار الأسد، لم يُسدل الستار على الأزمة السورية، بل انفتحت أبواب مرحلة جديدة مليئة بالأحجيات المعقدة. هي لحظةٌ فاصلة، لا تُقاس بسطوع الأمل فقط، بل بتشابك المصالح المحلية والإقليمية والدولية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحديات الجيوسياسية الجديدة تضع الجميع أمام اختبار حقيقي فيما يتعلق بمستقبل سوريا والمنطقة ككل. علاوة على ذلك، فإن هذا التحول يطرح أسئلة محورية حول شكل الدولة المستقبلية في سوريا، هل ستكون دولة مستقرة قائمة على التوافق السياسي؟ أم أن الفوضى ستستمر في إذكاء الصراعات الداخلية؟
إن الإطاحة بنظام الأسد أزاحت سلطة مركزية كانت تمثل بالنسبة للبعض ركيزة الاستقرار، وبالنسبة لآخرين رمز القمع والدمار. أيضًا، أدى هذا السقوط إلى ظهور فراغ في السلطة، وهو ما يغذي صراعات متعددة الأبعاد. من جهة أخرى، فإن القوى المحلية، التي تنقسم بين مكونات طائفية وقومية، تتسابق لتحقيق مكاسب سياسية في ظل غياب رؤية وطنية جامعة.
أبرز الفاعلين في المشهد الجديد هي "هيئة تحرير الشام"، التي تحاول تقديم نفسها كلاعب رئيسي في إدارة مرحلة ما بعد الأسد. وبعبارة أخرى، زعيمها أبو محمد الجولاني يسعى إلى إثبات قدرته على استنساخ نموذج الإسلاميين في تركيا، حيث تمزج تركيا البراغماتية السياسية مع توظيف الدين كعامل قوة ناعمة. ذلك أن الجولاني يسعى لجذب المجتمع الدولي عبر التزامه بوقف إطلاق النار مع إسرائيل واحترام حقوق الأقليات، مما يعكس حرصه على الظهور كقوة قابلة للتعامل مع المجتمع الدولي.
في المقابل، فإن سقوط الأسد لم يكن نهاية للصراع الإقليمي على سوريا، بل بداية فصل جديد من التنافس على النفوذ. تركيا، الحليف الرئيسي لهيئة تحرير الشام، ترى في هذه اللحظة فرصة لتعزيز نفوذها في الشمال السوري وتحقيق مكاسب استراتيجية على حساب خصومها الإقليميين. نتيجة لذلك، تزداد التوترات في المنطقة بشكل ملحوظ.
من ناحية أخرى، تواجه روسيا وإيران تحديًا وجوديًا للحفاظ على مصالحهما في سوريا. وبناءً على ما سبق، قد تلجآن إلى دعم فصائل بديلة لضمان استمرار نفوذهما، خاصة في المناطق الاستراتيجية مثل الساحل السوري. على النقيض، تُظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب اهتمامًا بالغًا بسوريا، مع اعتبار سقوط الأسد فرصة لإعادة ترتيب الأوراق السياسية، على أن يكون أي انخراط في إعادة الإعمار مشروطًا بتحقيق انتقال سياسي يضمن حقوق الإنسان واستقرار المنطقة.
وبالنسبة للأردن، فإن ما بعد الأسد يحمل معه معادلة معقدة تجمع بين المخاطر والفرص. أي أن الأردن كان قد تحمل على مدار سنوات الصراع أعباءً كبيرة نتيجة تدفق اللاجئين السوريين والتهديدات الأمنية على حدوده الشمالية. ومع سقوط النظام، يواجه الأردن واقعًا جديدًا يتطلب استراتيجيات دقيقة للتعامل مع التغيرات الجذرية. من هذا المنطلق، يتعين على الأردن أن يعيد صياغة استراتيجياته الأمنية والاقتصادية للتكيف مع هذه التغيرات.
إذن، تتراوح السيناريوهات المتوقعة لسوريا ما بعد الأسد بين تفاؤل حذر وتشاؤم مبرر. إذا نجحت الأطراف السورية في الوصول إلى توافق وطني حول صياغة دستور جديد وبناء مؤسسات الدولة، فقد تدخل سوريا مرحلة انتقالية طويلة لكنها واعدة. ومع ذلك، فإن الفشل في تحقيق هذا التوافق قد يؤدي إلى تكريس حالة من التقسيم الفعلي، حيث تصبح سوريا ساحة لتنازع مناطق النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. في هذا السيناريو، قد تستمر الفوضى السياسية والعسكرية، مما يُطيل من معاناة الشعب السوري ويُعمق الأزمات الإنسانية.
إن سقوط نظام الأسد لا يعني نهاية الصراع السوري بقدر ما يفتح صفحة جديدة تحمل في طياتها تحديات وجودية وفرصًا يجب التعامل معها بحذر وحكمة. بناءً على ما سبق، يجب على الأردن، باعتباره أحد الدول الأكثر تأثرًا بالصراع السوري، أن يُعيد تعريف استراتيجياته بما يخدم أمنه القومي، ويُعزز من دوره الإقليمي. وفي الوقت ذاته، ينبغي أن تُستثمر اللحظة لدعم مسار سياسي جديد في سوريا، يقوم على مبادئ العدالة والمواطنة واحترام حقوق الإنسان.
سوريا اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي، والتاريخ يعلّمنا أن النجاح في بناء الدول لا يعتمد فقط على تسويات سياسية مؤقتة، بل على قدرة الشعوب والنخب على صياغة مستقبل مشترك يقوم على التعايش والعدالة والتنمية.