أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات جامعات وفيات برلمانيات رياضة وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين ثقافة اخبار خفيفة سياحة الأسرة طقس اليوم

مهيرات تكتب: على حافة الهاوية: متى ندرك قيمة التوازن؟


الدكتورة ميرفت مهيرات

مهيرات تكتب: على حافة الهاوية: متى ندرك قيمة التوازن؟

مدار الساعة ـ
العالم يتأرجح على حافة الهاوية، وكأننا نعيش لحظة فاصلة بين السقوط أو النجاة. مع كل أزمة تضرب كوكبنا، يصبح المشهد أكثر وضوحاً: الإنسان في سباق محموم لتحقيق مصالحه، بينما الطبيعة، والمجتمع، وحتى القيم الإنسانية تدفع الثمن. لم يكن الطريق إلى هنا مفاجئاً، بل هو نتيجة عقود من تجاهل التوازن، التوازن الذي يشكل سر الحياة واستمرارها.
تخيل للحظة أنك تقف على حافة جبل شاهق، الرياح تضرب وجهك بشدة، والخطوة القادمة قد تكون الأخيرة. هل ستندفع للأمام دون تفكير؟ أم ستقف لتعيد حساباتك؟ هذا المشهد ليس مجرد استعارة، بل هو واقعنا اليوم. الطبيعة تصرخ في وجوهنا من خلال أعاصيرها، وحرائقها، وفيضاناتها. وكأنها تُذكرنا بأنها ليست عدواً يمكننا التغلب عليه، بل شريك لا يمكننا الاستمرار بدونه. لكننا، في غمرة تطلعاتنا، نسينا تلك الحقيقة البسيطة. اقتلعنا الغابات، سممنا الأنهار، وأطلقنا سمومنا في الهواء. والآن، ندفع الثمن: كوكب يختنق ونحن معه.
ولكن ماذا لو توقفنا لحظة لننظر إلى أولئك الذين يحاولون التمسك بالتوازن وسط هذا الجنون؟ الأردن، هذا البلد الصغير جغرافياً والغني إنسانياً، يقدم نموذجاً فريداً في التعامل مع الأزمات. فهو يقف على حافة تحديات غير مسبوقة: شح الموارد الطبيعية، أزمة اللاجئين المستمرة، والتغير المناخي الذي يهدد أمنه المائي والزراعي. ومع ذلك، يُظهر الأردن قدرة لافتة على العمل وفق منظومة توازن دقيقة، وكأن كل خطوة تُحسب بعناية لتجنب السقوط.
خذ على سبيل المثال إدارة الأردن لموارده المائية. في بلد يعدّ من أكثر دول العالم فقراً بالمياه، لا يزال يعمل بجهد لتطوير حلول مبتكرة ومستدامة، من إعادة استخدام المياه إلى تقنيات الزراعة الذكية. ورغم الضغط الهائل الناتج عن استضافة أعداد كبيرة من اللاجئين، يواصل الأردن تقديم نموذج إنساني يوازن بين واجباته الإنسانية واحتياجاته الداخلية.
ومع ذلك، فإن هذا النموذج، على الرغم من جودته، لا يمكنه الاستمرار وحده ما لم تدعمه منظومة حوكمة رشيدة وشراكة دولية حقيقية. الأردن، كباقي دول العالم، يحتاج إلى سياسات تركز على العدالة الاجتماعية والاستدامة، وإلى دعم عالمي يعترف بأن الأزمات ليست مسؤولية بلد بمفرده.
لكن الأردن بقيادته الحكيمة يقدّم للعالم درساً مهماً: التوازن ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء. داخل المجتمعات نفسها، نجد خطوطاً غير مرئية تتسع بيننا يوماً بعد يوم. فجوة غائرة تفصل بين الأغنياء والفقراء، بين الشمال والجنوب، وبين الأفراد أنفسهم. التحديات ليست فقط اقتصادية، بل أيضاً نفسية وفكرية، حيث تغذي الانقسامات العنصرية والتطرف واللامبالاة. يبدو الأمر كما لو أننا نبني جدراناً لا جسوراً، متناسين أن انهيار أي جزء من المجتمع يعني انهياراً للجميع.
وفي خضم هذه الفوضى، تدخل التكنولوجيا لتلعب دوراً مزدوجاً. هي الأداة التي اختصرت المسافات، وفتحت آفاقاً جديدة، لكنها أيضاً السلاح الذي عزز الانقسامات، ونشر المعلومات الزائفة، وجعلنا أكثر عزلة مما كنا نظن. التكنولوجيا بلا قيود أصبحت قوة تفوق سيطرتنا، تدفعنا بقوة نحو الهاوية ما لم نتعلم كيف نعيدها إلى مسار يخدم الإنسانية بدلاً من أن يقودها نحو الفوضى.
ورغم كل شيء، لم نفقد الفرصة بعد. التوازن ليس مجرد حلم بعيد المنال، بل هو خيار يمكننا تحقيقه إذا أردنا. إعادة التوازن تبدأ من خطوات بسيطة: شجرة تُزرع بدلاً من أن تُقطع، مجتمع يتحد بدلاً من أن ينقسم، أو قرار سياسي يضع مصلحة الشعوب فوق المصالح الضيقة. لكن تحقيق هذه الخطوات يتطلب قيادة واعية ونظام حوكمة عادل يتجاوز المصالح الآنية ويركز على الاستدامة الطويلة الأمد.
الحافة التي نقف عليها اليوم ليست بالضرورة نهاية الطريق. ربما تكون فرصة للنظر بتمعن إلى أين أوصلتنا خطواتنا السابقة، وفرصة لإعادة التفكير قبل أن نتخذ خطوة جديدة. الأردن، برغم تحدياته، يقدم نموذجاً للإصرار على البقاء والتوازن، وكأنه يرسل للعالم رسالة واضحة: حتى على حافة الهاوية، هناك دائماً طريق للعودة، إذا قررنا السير فيه بحكمة. نحن نملك القرار. إما أن نتحرك بحكمة نحو التوازن الذي يحفظ حياتنا وحياة الأجيال القادمة، أو أن نواصل تجاهل الحقائق حتى نجد أنفسنا في السقوط الحر. الخيار بين أيدينا، ولكن الوقت ينفد.
مدار الساعة ـ