لا أحد يستطيع، إلى الآن، أن يحدد ما سيكون عليه شكل الدولة السورية وطبيعة نظامها السياسي، في ظل حالة سيولة وغموض تحيط توجهات المعارضة الممسكة بزمام الأمور.
لكن ما نستطيع توقعه هو أن سوريا إما يعاد تصميمها من القوى الخارجية (إقليمية ودولية) الفاعلة على أرضها، أو من قوى المعارضة وبمعزل عن القوى الخارجية.
ويبدو واضحًا أن الاحتمالين، الأول والثاني، لا فرصة لأي منهما، فان الاحتمال الـثالث هو محاولة بناء تسويات بين الفاعلَين الداخلي والخارجي لتحديد شكل الدولة السورية ومضمونها.
ولا شك أن اليد العليا ستكون للفاعل الخارجي، فهو الممول والمخطط، وهو يفعل ذلك منطلقًا من مصالح حددها سلفًا في سوريا.
هذا يستدعي من الفاعلين الخارجيين أن يدخلوا في مفاوضات بينية للوصول إلى صيغة حكم لسوريا تلبي مصالح هؤلاء الفاعلين، فلكل فاعل خارجي أداته الداخلية في سوريا التي يوظفها لتحسين موقعه على طاولة التفاوض.
طبعا يُقسم الفاعلون الخارجيون إلى قسمين: رئيسي، وثانوي ملحق بالفاعل الرئيسي، تمامًا كما لكل فاعل رئيسي خارجي فاعل داخل سوريا ملحق به.
في العموم؛ سوريا التي نعرفها لن تعود، سيكون هناك سوريا جديدة، وهذه الـ"سوريا" الجديدة رهن تفاهمات وتسويات الفاعلين، فهي إما:
(1) سوريا بحدودها الحالية لكن وفقا لصيغة تشبه "اتفاق الطائف" في لبنان التي جرى استنساخها في العراق، أي تقاسم السلطة في سوريا وفقا لمكوناتها الإثنية والطائفية.
(2) سوريا مقسمة جغرافيًا بين إثنياتها وطوائفها؛ ففي سوريا أكراد ودروز وشيعة وسنة وطوائف وإثنيات أخرى.
(3) سوريا تشبه أفغانستان الواقعة الآن تحت حكم طالبان، أي تُحكم من قوى إسلامية متشددة وعلى رأسها قوى تتبع أو تتبنى أو قريبة من أفكار القاعدة و"داعش".
(4) أو أن تدخل سوريا في حال من الفوضى جراء صراع محتمل بين قوى المعارضة مختلفة المرجعيات أو تلك التي نسقت لإطاحة النظام، وهذا السيناريو وارد لأن كل طرف شارك في إطاحة النظام يريد حصة في مستقبله.
فرصة أي من الاحتمالين، الأول والثاني، قائمة وممكنة، أما الاحتمال الثالث فلن تسمح به القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، مهما كان الثمن، فهي لن تقبل بتكرار تجربة طالبان، وفي الشرق الأوسط بخاصة.
مرة أخرى، ما سيحدد مستقبل سوريا هو الفاعل الخارجي بتنسيق مع أداته الداخلية، وأي تصريحات سياسية وإعلامية تنطلق من الدول الفاعلة أو من أطراف المعارضة السورية لا يعتد بها، فهي لا تظهر كامل الحقيقة ولا تكشف كل الكامن في المشهد ومآلاته.
وعليه، فليس لدينا خلاصات نهائية يمكن أن نبني عليها استنتاجات محددة، كي نقول أن سوريا تسير بهذا الاتجاه أو ذاك. الأمر يحتاج إلى مفاوضات طويلة بين الفاعلين الكُثُر، فسوريا الآن تعد مجمعا لا مثيل له للفاعلين إقليميًا ودوليًا.
السؤال: أين الأردن من هذا كله..؟
الجواب البسيط، الأردن موجود، ولا يملك إلا أن يكون موجودًا في المشهد السوري، فسوريا جارة وما يحدث فيها ومآلاته تؤثر حتمًا في الأردن وأمنه القومي، وفيه مئات آلاف اللاجئين، وله مصالح حيوية في سوريا ومعها.
واجتماعات العقبة بشأن سوريا خطوة ذات قيمة ووزن مهمين، وتعبير عن إصرار الأردن أن يكون حاضرًا عند بحث مستقبل سوريا، فهذا المستقبل ممنوع تشكيله بعيدًا عن عمّان.
وبالقدر نفسه ممنوع أن تكون "إسرائيل، هذا الكيان الإجرامي الاستيطاني التوسعي، جزءًا من حسابات الأردن، فهذا الكيان المصطنع يتحرك من وحي مصالحه ولا يرى الأردن إلا "ساحة حل" لتصفية القضية الفلسطينية.
إن الخبث الذي مارسه الكيان الصهيوني في الأيام الماضية من إبداء القلق على الأردن من تداعيات ما يجري في سوريا لا ينطلي على عاقل، فهو ليس أكثر من تحضير إعلامي وسياسي لخطوة ما لاحقة.. وعلينا الحذر والانتباه.
ولا ننسى في ذات الوقت أن أميركا تمثل مصالح إسرائيل، حتى ولو بشكل غير مباشر، ولنتذكر أن أحد أهم شروط الاعتراف الأميركي بالوضع الجديد وإمكان دعمه، كما أفصح عن ذلك وزير خارجيتها بلينكن في أنقرة، هو ألا يشكل النظام الجديد خطرًا على جيرانه (يقصد إسرائيل بالطبع).
المهم؛ الأردن ونشاطه وتفاعله لا يجب أن يتوقف عند حدود اجتماعات العقبة ونتائجها، عليه أن يشتبك مباشرة مع الأميركي والفرنسي والتركي والروسي، وقطر والإمارات والسعودية وإيران، والعراق.
وبقدر أهمية ذلك الاشتباك مع الفاعلين الدوليين والإقليميين، عليه أن يشتبك مع حلفائه داخل سوريا ليضمن دوره وتأثيره، فلا نريد أن ننام ونصحو على كارثة سياسية وأمنية في الجوار، ونجد أنفسنا وقد تحولنا إلى دائرة اهتمام الفاعلين الخارجيين، وكلهم لا يضمرون لنا خيرًا.
الأردن تحميه جبهته الداخلية، فلا تنسوا ذلك..