يناقش هذا المقال سيناريوهات مستقبلية لاتجاهات العلاقات القطرية الأمريكية في ظل الإدارة الجمهورية الجديدة، والتي استلمت السلطة من الديمقراطيين في انتخابات لم تكن نتائجها لحد كبير مفاجئة، وهناك مجموعة عوامل قادت إلى ذلك الاستلام؛ حيث يمكن لوم سلوك السياسية الخارجية الامريكية تجاه الصراعات في العالم في أوكرانيا وفلسطين، ولبنان، بشكل أكبر من مدى لياقة جو بايدن وأهليته السياسيّة، أو تأخر تسمية هاريس كمرشحة للحزب الديمقراطي. انتقال السلطة هذا، سيكون له انعكاساته، بطبيعة الحال، على بُنى السياسة الدولية، ومنها مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وبشكل أكثر دقة، على العلاقات القطرية الأمريكية.
هناك ثلاثة سيناريوهات مُحتملة للعلاقة الاستراتيجية القطرية الأمريكية في المستقبل القريب، وتحقق احدها يتوقف على مجموعة مُحددات دولية وإقليمية. هذه السيناريوهات تتنوع بين الارتقاء والثبات والفتور.
من نافلة القول إن هذا صحيح، ولكن من المُلّح معرفة ما هي تلك المُحدّدات والظروف المسؤولة عن تشكيل أي من تلك السيناريوهات؟
قبل الولوج في ذلك، لنحاول استكشاف "خطوط التماس" في البيئتين الإقليمية والدولية، والتي تلتقي فيها كل من دولة قطر والولايات المتحدة الأمريكية. يُعد الوضع الحالي في المنطقة العربية؛ وفي فلسطين ولبنان تحديدًا من الأماكن التي يتواجد بها الطرفان، على الرغم من تباين أسباب الحضور من حيث: المصالح، والتحالفات، وشكل الحضور. فإذا كان الدعم العسكري واللوجستي يؤطر الحضور الأمريكي، فإن الحضور الدبلوماسي، والإنساني يُبرز الوجود القطري، وإذا كانت المصلحة القومية العليا الأمريكية هي المُحرّك الأساس لحفظ أمن إسرائيل، والمبني على دعم الاحتلال في عدوانه على غزة من خلال التحالف المُقدس بينهما، فإن المصلحة الوطنية القطرية في تعزيز السلم هي المُحرك الأساسّي لذلك الحضور؛ مدفوعة بالأعراف والقانون الدولي، وبما يعكس ثقافتها وانتمائها العربي والإسلامي، فأعمال الإغاثة الإنسانية وقيادة المفاوضات لوقف الحرب تدلل على ذلك.
وعلى مستوى أعلى من ذلك بقليل، فإن الحرب الأوكرانية الروسية، تعتبر أحد خطوط التماس أيضًا، ففي الوقت الذي لا تنقطع فيه الأجواء الأمريكية من شحن العتاد الحربي النّوعي لأوكرانيا، نجد أن السياسة الخارجية القطرية اتجاه هذا الصراع تُمارِس سياسة الحياد بين الأطراف، ولكنها بالوقت ذاته تُمارِس سياسة الانحياز للقانون الدولي الإنساني؛ تلك السياسة التي أنتجت العديد من حالات لَمّ الشمل للعائلات الأوكرانية ضمن صفقات تبادل للأسرى بين الأطراف المتصارعة.
لا يُمكن إنكار فاعلية الدبلوماسية القطرية في النظام الدولي؛ فهناك العديد من الأدوار التي قامت وتقوم بها، وأهمها الوساطة، والتي من خلالها تلتقي أهداف السياسة الخارجية القطرية مع أهداف المنظمات الدولية، وبشكل خاص الأمم المتحدة؛ من خلال العمل على ضرورة تعزيز السلم والأمن الدوليين، وهذا ما تم التأكيد عليه في التعديلات الدستورية الأخيرة، والتي شملت بعض مواد الدستور القطري المَعنية بدور الدبلوماسية. وبالرغم من أن هذه الفاعليّة مُهمة ومُنتجة، إلا أنه من الممكن أن يترتب على ذلك بعض العواقب والمصاعب، إلا أن قطر أختارت مقاربةً تُبرز نهجها السياسي الخارجي، وهنا لا بد من اعتبار حسابات الكلفة السياسية والاقتصادية، وربما الأمنية.
إن التنبؤ بشكل العلاقة الاستراتيجية القطرية الأمريكية، من وجهة نظري، يعتمد بالأساس على مدى الالتقاء والابتعاد بين سياسة البلدين في جملة محددات إقليمية ودولية. فاتجاه العلاقة نحو مزيد من المتانة، من وجهة نظر أمريكية، قد يعتمد نسبيًا على مستوى مُتقدم من تشارك، أو تعاون لتقريب وجهات النظر حول إمدادات الطاقة، والعلاقة مع القوى الصاعدة، وبشكل أكثر قبولًا حول العدوان على غزة، ووقف الحرب؛ كجزئية من متلازمة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وما يتصل بذلك من ملفات، مثل حق العودة، وحل الدولتين، والمستوطنات، وإعادة إعمار غزة، ومستقبل العلاقة مع حركة حماس، والتطبيع، وغيرها.
الحق أن هذه الملفات من الوزن الثقيل، ويحتاج العمل عليها إلى مهارة تفاوضية، وصلابة. فبالرغم من أهمية الالتقاء بين وجهات النظر، إلا أن الثوابت الوطنية والقومية والإسلامية لا يُمكن التنازل عنها، فهي بمثابة "كبائر ومُحرمات وطنية" لا يمكن الاقتراب منها. فعلى الرغم من تبدّل الإدارات الأمريكية بين جمهورية وديموقراطية، إلا أن الدعم القطري للقضية الفلسطينية، وعلى جميع الصُعد كان راسخًا، وإن بدا مرنًا في بعض الأوقات.
ترامب القادم بحماس واندفاع لاستكمال تحقيق النصر، كما يتصوره، من خلال إنهاء الحروب والصراعات في المنطقة، وهذا محمود، يجب أن يتقبل اختلافنا معه وإشكاليتنا التي تكمن بالكيفية، وبكلفة ذلك الإنهاء على مستوى القضية ككل. فعلاقته بنتنياهو معروفة للجميع، ويمكن استذكارها من خلال الدعم اللامحدود الذي قدمه لإسرائيل بشكل عام، ولنتنياهو بشكل خاص خلال فترة ولايته الأولى. والسؤال هنا: كيف يمكن وقف اندفاع وحماسة ترامب هذه؟
في الإطار الإقليمي، وللحصول على علاقات متينة، يمُكن تخفيف الضغوط الأمريكية على قطر وايضًا دول اخرى محورية في الدفاع عن القضية الفلسطينية كالأردن، من خلال تبني أدوات العمل العربي المُشترك، من حيث تفعّيل أدوار المنظمات الإقليمية، كالجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والمنظمات دون الإقليمية كمجلس التعاون الخليجي. قد يبدو هذا في ظاهره هينًا، ولكن هنا أيضًا سؤال آخر مُلحّ، يتعلق بكيفية التفعّيل؟ ومدى ارتباط هذه العملية بأدوار الدول الإقليمية والمحورية في تلك المنظمات من جهة، وحيوية قيادات تلك المنظمات من جهة أخرى، على الرغم من ارتباط الثانية بالأولى دومًا. عملية التفعّيل هذه تحتاج إلى حشد الصفوف لبحث إمكانية السير في عمل إصلاحات نسبية، أو جوهرية ضمن تلك المنظمات لكي تؤدي الدور المُناط بها بكفاءة، أو من المُمكن أن يكون مجرد طرح ذلك بجدية مُفرطة مُثمرًا ويأتي بنتائج جيدة. إن مقاومة سياسة ترامب الجديدة تجاه القضية المركزية، بشكل أساسي، ليست مسؤولية الأردن أو قطر وحدهما، ففرملة قطار التطبيع يحتاج لموقف عربي وإسلامي موحد يستند إلى رؤية واضحة حول أهمية العمل الجماعي في البيئة الدولية من خلال إحياء المبادرة العربية وحل الدولتين، وتفعيل المُصالحة الفلسطينية، وإعادة تأطير حركة حماس ضمن حركات المقاومة المشروعة، خاصة وأن الأخيرة مُتعبة الآن من إستمرار القتال، والذي متوقع له، للأسف، أن يمتد إلى فبراير أو مارس من العام القادم، وهذا من شأنه بطبيعة الحال، أن يؤثر على مكتسبات الفلسطينيين من عملية التفاوض الحالية، أو تلك التي قد تتشكل بعد دعوة من ترامب لإنهاء الحرب.
وفي الإطار الدولي فإن أسواق الطاقة، وبخاصة التوجهات نحو تأطير الغاز ليكون مثيلًا للنفط من حيث التنظيم، وبالتالي التأثير في السياسة الدولية، قد يُثير الحساسية بين الطرفين؛ تبعًا للدور الذي كانت تقوده قطر في هذا المجال. كما أن مدى نُضج العلاقات القطرية وإرتقاءها مع الصواعد الإقتصادية بشكل خاص، تلك الطامحة أيضًا لتغيير بُنية النظام الدولي؛ كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، ستكون بمثابة "باروميتر" لقياس توجهات العلاقة الاستراتيجية. إن تأخر إعلان واضح من دولة قطر للانضمام لمجموعة البريكس، قد يكون مدروسًا؛ ليتم استثماره في وقت تتبعثر به الأوراق والحسابات السياسيّة؛ لاكتساب ميزة أو استثمار موقف يُخفف من وطأة التوجهات الجديدة.
الآن، وبعد الزيارة الأخيرة لسمو الأمير تميم بن حمد لتركيا، ولمجموعة من دول أمريكا اللاتينية، قد ينظّم هذا المُحدّد لسابقيه ويلعبُ دورًا نسبيًا في بلورة سيناريو بعينه. هذه المُحددات وغيرها تتطلب عددًا من الخيارات العقلانية Rational choices، والتي أعتقد دون شك، أنها على طاولة صانع القرار، للموازنة والتقييم وتَحيُن الوقت المناسب لإتخاذ القرار. لذا، أعتقد أن العلاقة ذاهبة في اتجاه الارتقاء للأسباب السالف ذكرها، وأيضًا لغياب الظروف التي أنشأت علاقة متوترة بين البلدين وما رافقها من ارتدادات إقليمية خلال فترة ترامب الأولى. لذلك، فإن تحقق ذلك السيناريو يعتمد على قدرة قطر في تجاوز هذا الوحل دون أن تتسخ؛ من خلال دبلوماسية مُحترفة تستثمر مصادر القوة في السياسة الخارجية، وتسير بطريقة متزنة تحفظ الثوابت الإسلامية والعربية و تحقق المصالح الوطنية العليا، وبذات الوقت تُمكّنها من اللعب على حبل السياسة الدولية المشّدود.