حيثما تذهب في مدن العالَميْن العربي والإسلامي أو المدن العالمية التي توجد فيها جالياتٌ عربيّة أو مسلمة فإنك تجد اسم القدس يلوح في شوارعها ومسمّيات متاجرها وجمعياتها، فلا تكاد مدينةٌ تخلو من شارع يحمل اسم شارع القدس، أو مطعم أو مقهى يحمل اسم القدس، أو حزب أو جمعيّة أو لجنة أو تيار أو تحالف أو محطة إذاعية أو قناة تلفزيونية أو صحيفة أو مجلّة تحمل هذا الاسم المبارك، ولا أظنّ أنّ مدينة عربية أو إسلامية تخلو من جامع أو أكثر يحمل اسم مسجد القدس، أو تخلو من مخبزٍ أو حانوتٍ أو سوقٍ أو متجرٍ يحمل اسم المدينة المقدّسة، ولمــّا كان للقدس هذا الحضور في الوجدان والضمير والعقيدة عند العرب والمسلمين وكان المساس بها مساساً بعقيدة الأمّة وضميرها حملت بعض الجيوش والفصائل والكتائب والفيالق والسرايا اسم القدس الشريف، حتّى إن العملية التاريخيّة التي وقعت في السابع من تشرين الأول 2023، وتركت أثراً عميقاً وبالغاً ومستمرّاً في التاريخ الحديث أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم عملية طوفان الأقصى، ووقعت بعد ممارسات واستفزازات صهيونية متزايدة ضدّ القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك.
إنّ حضور القدس الشريف وتغلغلها في الحياة العربيّة والإسلامية على هذا النحو الواسع هو أحد أهمّ إفرازات حضورها في الثقافة العربيّة والإسلامية وفي الروح العربيّة والإسلاميّة، ممّا يجعل من هذه المدينة المقدّسة من أهم نقاط الالتقاء بين أبناء الأمّة ومن أهمّ الجوامع المشتركة بين أقطار الوطن العربي والإسلامي.
وبسبب هذه المكانة العالية لمدينة القدس في نفوس العرب والمسلمين، ولكونها من أهمّ المقدّسات التي تجمع الأمّة، فإنّ استهدافها من قبل الصهاينة أو من قبل أعداءِ الأمّة لا يقصد به استهداف المكان نفسه بوصفه مكاناً جغرافياً أو مكاناً ذا رمزيّة تاريخية أو بوصفه مقدّساً، بل يقصد منه استهداف أحد أهم مقوّمات ومرتكزات اجتماع الأمّة، بالإضافة إلى جعل المساس بمقدّسات الأمّة أمراً مألوفاً ثمّ مقبولاً مع مرور الزمن، ومتى ألفت الأمّة المساس بمقدّساتها وعقائدها وتقبّلت ذلك انهارت أسباب منعتها وتماسكها وانهارت بعض بل أهم مرتكزاتها. ومن هنا فإنّ أي استهانة بمعاني العدوان الصهيوني المتواصل والمتفاقم على القدس الشريف يحمل في طيّاته خطراً بالغاً على الأمّة وعقيدتها وروحها ومصادر وحدتها ومنعتها. ولذلك فإنّ القدس ليست مجرّد مدينة فلسطينية بل هي مدينة العرب والمسلمين كافّة، كما أنّها ليست مدينة مقدّسة فقط، إذ إنّ في بلدان العالم مدناً مقدّسة كثيرة لكنّها لا تحظى بما تحظى به القدس الشريف من دورٍ حضاريّ وإنسانيّ ومكانة ثقافية رفيعة تجمع الأمّة كلّها بكلّ أقطارها وقوميّاتها وطوائفها، حتّى إنّك إذا كنت مقدسيّاً وذهبت إلى أيّ بلدٍ عربيّ أو إسلاميّ وكشفت عن هويّتك المقدسيّة فإنك ستجد من الاحترام والتقدير والتبجيل ما لا يجده غيرك بل ستجد من يتبّرك بك.
وإلى جانب كون المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين الشريفين، وأنها كانت مقصداً للحجّاج المسلمين من العرب وغير العرب يقصدونها للتقديس في طريقهم إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ أو في أثناء عودتهم من رحلة الحجّ، فقد كان بيت المقدس ملتقى للعلماء وطلبة العلم من أنحاء العالم الإسلامي من بلاد فارس إلى بلاد الأندلس، وكانت تعقد بها مجالس العلم لجميع أصحاب المذاهب الفقهية من شافعية وحنبلية وحنفيّة ومالكية ومتصوّفة، كما سكنها مجاورون من أقطار الأمّة الإسلامية كافّة. ولا تكاد رحلةٌ من رحلات العرب والمسلمين شرقاً أو غرباً تخلو من زيارة للقدس الشريف ووصف لمعالمها الدينية والأثرية. كما أنّ دواوين الشعراء الرحّالة حفلت بقصائد في التغنّي بالقدس والحنين إليها ووصف معالمها ومجالسها. وقد حفلت كتب التراجم بمئات الأعلام من العرب والمسلمين الذين تلقوا العلم في القدس الشريف أو الذين حملوا لقب «المقدسيّ».
وقد اكتسبت القدس الشريف مكانة عظمى لكونها معراج النبي عليه الصلاة والسلامُ إلى السماء، وبعد فتحها من قبل الخليفة الراشدي عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وازدادت مكانتها في ديار الإسلام خلال ما أستطيع تسميته بالحرب العالمية ما قبل الأولى بين الشرق والغرب وإبّان الحروب الصليبية، ومنها صدر درسٌ عظيم من دروس النصر عندما انتصر صلاح الدين الأيوبيّ على الصليبيين في معركة حطّين بعد أنّ وحّد أقطار العالم الإسلامي.
لقد تمثّل الدور الحضاري لمدينة القدس الشريف في كونها جامعة لقلوب العرب والمسلمين على امتداد الأرض شرقاً وغرباً، وكونها حاضرة علميّة وثقافية من حواضر العالم الإسلامي على مدى عصورٍ تاريخية متتابعة، ولكونها محطّ أنظار الخلفاء منذ أيام الخلفاء الراشدين ثم الخلفاء الأمويين وصولاً إلى أيام الأيوبيين فالممالك ثم العثمانيين وإلى أيامنا هذه، وبذلك تكون قد جمعت محبة العرب والمسلمين عبر الأزمنة والأمكنة، وجمعت عناية الدول والحكّام والسلاطين كما جمعت عناية الأدباء والعلماء والرحّالة والطلبة والمفكرين والباحثين، كما جمعت عناية الأبطال والفرسان والشجعان والمرابطين وأبطال المقاومة المدافعين عنها في وجه الاحتلال الصهيوني.
ومن أنصع الملامح الحضاريّة لمدينة القدس أنّها كانت عبر تاريخها الإسلامي الطويل مثالاً للتعايش والتسامح والتنوّع الثقافي والفكري والعلميّ والقوميّ دون أيّ تمييز إلا بالتقوى.
Salahjarrar@hotmail.com