هذا المقال يختم السلسلة التي سعت لتسليط الضوء على تأثيرات إدارة ترامب الجديدة على السياسة الدولية، حيث تناول المقالان السابقان ذلك التأثير المُفترض على العالم العربي، والاتحاد الأوروبي. في حين، يُركز هذا المقال على التأثيرات المُحتملة على العلاقات مع الصين وروسيا، وفي أي اتجاه ستسيران: التعاون أم الصراع؟
إن محاولة النظر من الأعلى لشكل العلاقات المُفترضة بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا، قد تبدو في ظاهرها موحدةً؛ من ناحية مقاومة المحاولات الطموحة للدولتين في تحدي الهيمنة الأميركية وتغيير النظام الدولي الحالي من أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب، إلا أن إعادة النظر بشكل أُفقي قد تُظهر تباينًا في شكل العلاقات، حيث يمكن أن تأخذ شكلًا من التعاون نسبيًا مع روسيا بخصوص ملف أوكرانيا، والتنافس الحاد مع الصين بخصوص تايوان، والحرب التجارية. وبذات الوقت فإنه من الأهمية بمكان اعتبار مدى تأثير ذلك التعاون الروسي ا?أميركي المُفترض على قوة واستمرارية التحالف الروسي الصيني.
يمكن بدء استكشاف شكل العلاقات من خلال محاولة فرملة الطموحات الروسية الصينية لمقاومة الهيمنة الأميركية من خلال طرح التساؤل المركزي التالي: لماذا تسعى الصين وروسيا لكسر الهيمنة الأميركية؟ بمعنى، ما هي الأسباب الذاتية والموضوعية التي دفعت البلدين لتشكيل التحالف الشرقي لمواجهة الولايات المتحدة. إذا كانت الأسباب الذاتية ذات اتصال بنشوء مد ثقافي وفكري جديد في البلدين يستدعي الدور الحضاري والإمبراطوري الذي لعبته كلتا الدولتين في وقت مُبكر في صيرورة هذا العالم، وبروز إشكالية اقتصادية محلية التأثير روسيًا تتعلق بال?جارة والعقوبات، ودولية التأثير صينيًا تتعلق بالحرب التجارية والبحث عن أسواق بمنأى عن المنافسة الأميركية، فإن الأسباب الموضوعية قد تكمن في جنوح السياسات العدائية الأميركية تجاه البلدين من ناحية، وتجاه العالم العربي، وبخاصة فلسطين من ناحية أخرى. وبذات الوقت إذا كان منبع الأسباب الذاتية في البلدين الصاعدين هو السعي للهيمنة؛ إقليميةً كانت أو دولية، فيجب إدراك أن المصلحة الوطنية العليا للدول إلى حدٍ كبير متشابهة، وأنها مدفوعة بالسياسات التوسعية، وإن اختلفت أدواتها وأشكالها، حتى وإن كانت ودية في البداية، سيأتي و?ت وتتطرف به كما هو حال الأميركية اليوم.
تحاول الإدارات الأميركية المتعاقبة - والجديدة بالتأكيد – مقاومة أي محاولات لتغيير النظام الدولي الحالي؛ لأن ذلك سُيفقدها الدور المركزي الذي تمارسه بانفراد لتصبح فاعلًا مؤثرًا، ولكن إلى جانب آخرين، وهذا يترتب عليه فقدان العديد من المصالح التي كانت تتحقق لها بمفردها، إلى جانب هذا، فإن تغيير النظام الدولي الحالي قد يُعرضها للمساءلة عن العديد من السياسات والسلوكيات المنحازة وغير المتوازنة والتي ساهمت في انتشار الظلم والهيمنة والوحشية في العالم. لذا، سعت كل من الصين وروسيا بعقد الاتفاقيات الثنائية المختلفة وخصو?ًا الدفاعية، والتي ارتقت لتصبح تحالفات استراتيجية، وعلى الرغم من أن الهدف الأساس هو تغيير النظام الدولي الحالي، إلا أنهما أرتأيتا الذهاب للتكتلات الاقتصادية، بشكل أولي، حيث سعت الدولتان مع البرازيل والهند إلى إنشاء مجموعة بريكس عام 2009.
هذه المجموعة نمت وحققت منجزات، بالرغم من تواضعها، إلا أنها جيدة مقارنة مع عمرها وطبيعة البيئة المقاومة لها. وفي هذا السياق، لا شك أن ترامب سيمارس ضغوطًا غير مسبوقة باتجاهين: أولًا، محاولة الضغط على مجموعة من الدول لعدم الانضمام للمجموعة بطرق مختلفة، وثانيًا، سيضغط على دول بعينها للانسحاب من المجموعة، بالتوازي وفي هذا الاطار، ستشهد العلاقات الأميركية والروسية والصينية توترًا، وتنافسًا حادًا على من يؤثر أكثر في المنظومة الدولية من قبيل الانضمام للمجموعة من عدمه. وبشيء من التفصيل حول أهم المحددات للعلاقة الث?ائية بين الولايات المتحدة مع كل من روسيا والصين، يمكن تناول ذلك من خلال استعراض الملف الأوكراني، وتايون والحرب التجارية.
روسيًا، قد تكون أوكرانيا إحدى أهم الحالات التي ستؤثر على العلاقات الروسية الأميركية، فترامب يريد من خلالها تحقيق جملة من الأهداف مثل: تأمين ما تبقى من الأراضي الأوكرانية من "القضم الروسي" والذي استشرى بضراوة مؤخرًا، والوفاء بوعوده في منع الحروب، وعدم تطور الظروف الميدانية والسياسية والتي قد تجبر الغرب والولايات المتحدة الأميركية على الدخول المُباشر في الحرب. ولكن كيف يمكن فهم الدور الذي ستلعبه أوكرانيا في جعل تلك العلاقات تنافسية أو تعاونية؟ بالوقت الذي يسعى ترامب للتعاون مع روسيا لوقف الحرب، فإنه يريد أيض?ا ممارسة ضغوط على روسيا لكبح جماحها نحو بناء منظمة دولية من خلال مجموعة بريكس يكون لها دورٌ محوريٌ ذو طابع اقتصادي في البداية، وأمنيّ دفاعيّ على غرار الناتو في مرحلة ما. بمعنى، قد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لقبول فكرة وواقع وجود المجموعة كمُنافِسة، على أن يتم إجراء هيكلة على الأهداف، خاصة تلك التي تسعى بشكل مُباشر لكسر هيمنة الدولار. لذا، فإن المؤشرات تدفع بأن حالة اوكرانيا ستشكل نهجًا تعاونيًا بين الولايات المتحدة وروسيا. وبطبيعة الحال، فإن هذا التعاون سيكون حذرًا من قبل موسكو التي لا تريد أن تثير ?ليفتها بكين، أو تخسر المستوى المُتقدم الذي وصلت له العلاقة الثنائية؛ لأنها تدرك، أن تبدل الإدارات الأميركية يرمي بظلاله على شكل وديمومة هذا التعاون.
صينيًا، قد تكون تايوان أحد المُحددات التي ستؤثر على العلاقات الصينية الأميركية باتجاهين: الأول، تعاوني من حيث احتمالية فرض ترامب إجراءات عقابية على تايوان لاعتبارات موقفه من شركة TSMC والمعنية بتصنيع الرقائق الإلكترونية، حيث تنتج تايوان 60% من احتياجات العالم، وتم نقل هذه الشركة للولايات المتحدة الأميركية. وأيضًا، فقد صرح ترامب في حملته، بأن تايوان لا تدفع للولايات المتحدة ثمن حمايتها لها، وبالتالي قد ينشأ هذا أجواء صافية في بكين. وعلى النقيض، من الممكن أن تُدخل تايوان الطرفين في صراع؛ فقد تلجأ الولايات ال?تحدة إلى ابتزاز الصين في مرحلة متقدمة من التنافس والاختلافات حول قضايا بعينها إلى إظهار وتقديم الدعم والحماية الكاملين لتايوان نكاية ببكين. إلا أن الأمور لا تصل إلى درجة تأييد تايوان في الانفصال، أو الاعتراف بها دولة مستقلة. الأمر الآخر فإن الرسوم الجمركية على الصادرات الصينية، والتي تحد من انسيابها عالميًا وأميركيًا من الممكن أن تقود العلاقات إلى مزيد من التوتر والتنافس، إلا اذا تم التفاهم حول هذا ضمن سياقات أخرى.
إن العلاقات الأميركية مع روسيا والصين في عهد الإدارة الجديدة لا تعدو عن كونها علاقة زئبقية؛ ترتقي وتنخفض بناءً على درجة حرارة الأجواء: فكلما كان هناك تنافس حاد حول محاولات كسر الهيمنة الأميركية، فستذهب العلاقة باتجاهات تنافسية وتصارعية من خلال توظيف حالات تايوان، وأوكرانيا، والحرب التجارية، ومجموعة بريكس. وكلما كانت الأجواء في حدود التنافس المقبول فستذهب العلاقات إلى الهدوء الحذر، وربما التعاون في حدوده الدنيا في حالات بعينها، نأمل أن تكون القضية الفلسطينية إحداها.
* استاذ العلاقات الدولية بجامعة لوسيل، قطر