قبل الخوض في تفاصيل مشروع قانون موازنة عام 2025، لا بد لنا من تحليل الوضع الحالي للسنة التي قاربت على الانتهاء.
كان واضحا أن مسلسل التراجع في إيرادات الخزينة، الذي بدأ في الربع الأخير من عام 2023، استمر بشكل واضح ومتزايد في عام 2024، وكانت أسباب الهبوط في الإيرادات متعددة بين تداعيات حرب الإبادة في غزة وتأثيراتها العميقة على عدد من القطاعات الإنتاجية والاستثمارية والخدمية، وبين تغير في أنماط استهلاكية كبيرة أدت إلى هبوط إيرادات ضريبية بمختلف أنواعها، وتحديدا الخاصة منها.
بلغة الأرقام، تراجعت الإيرادات العامة عما هو مقدر في موازنة 2024 بمقدار 946 مليون دينار، وهو أكبر تراجع يحدث منذ عام 2012، وغالبية هذا الهبوط جاء من الإيرادات المحلية، وتحديدا الضريبية.
لنكون أكثر وضوحا، تعرضت الإيرادات الضريبية لضغوطات كبيرة ونزيف هائل بسبب تغير أنماط الاستهلاك، وخاصة في بندي السيارات الكهربائية التي غزت الأسواق بأكثر من 120 ألف سيارة، مما ساهم في هبوط حاد في ضريبة المحروقات، إضافة إلى تغير النمط الاستهلاكي في السجائر التقليدية والاتجاه نحو منتجات التبغ الحديثة مثل السجائر بالتسخين، والتي أدت بالمحصلة إلى هبوط إيرادات الضريبة الخاصة على السجائر.
وهاتان الضريبتان (السيارات والسجائر) وحدهما تشكلان أكثر من 55 % من الضريبة الخاصة، وأي هبوط فيهما يؤثر مباشرة وبشكل واضح على الإيرادات المحلية.
ناهيك عن أن إيرادات الجمارك تعرضت لنزيف آخر، لكن هذه المرة كان السبب معروفا، حيث يعود أصل الهبوط إلى تداعيات القرارات الجمركية التي اتخذت في عام 2022، والتي قضت بتخفيض الرسوم الجمركية على الواردات بنسب كبيرة، ووضعها ضمن مستويات أربع فقط، حيث ساهم الإجراء جليا في تراجع الإيرادات بنسب كبيرة، حيث هبطت إيرادات الجمارك بمقدار 100 مليون دينار عما هو مقدّر في عام 2024.
الأمر مشابه أيضا لإيرادات ضريبة بيع العقار، التي هبطت بمقدار 44 مليون دينار، وانخفاض إيرادات تغطية المنح بمقدار 47 مليون دينار عما هو مقدّر للعام الحالي.
كان بإمكان الحكومة السابقة وقف النزيف الحاصل في بند الإيرادات وتعويض خسائر الخزينة والوصول إلى المستهدف في قانون موازنة الدولة لسنة 2024، لكن للأسف الحكومة في ذلك الوقت وقفت متفرجة على الوضع المالي المتدهور، دون أن تحرك ساكنا حتى النصف الأول من هذا العام.
وبعد المراجعة الأولى لصندوق النقد الدولي، حينها فقط اتخذت الحكومة أولى الإجراءات التصحيحية بضبط نفقاتها الجارية بمقدار 300 مليون دينار، أو ما نسبته 15 % منها، لتلحقها بعد ذلك بقرار قبل رحيلها بيومين برفع الضريبة الخاصة على السيارات الكهربائية ومنتجات التبغ والسجائر، لتدارك ما يمكن تداركه وتعويض القليل مما فاتها.
أقولها بصراحة، إن جميع مؤشرات قانون موازنة الدولة لسنة 2024 لم تتحقق وفق ما هو مقدر، وكان ذلك بسبب ترهل الحكومة وعدم جرأتها في ذلك الوقت على اتخاذ الإجراءات الوقائية والعلاجية والتصحيحية في الوقت المناسب، ولو اتخذت القرارات الصحيحة منذ نهاية الربع الأخير من العام الماضي، لتحققت العديد من مؤشرات الموازنة التي قاربت على الانتهاء.
للعلم، البند الوحيد الذي تحقق في موازنة 2024، وجاء لصالح الخزينة هو بند المنح الخارجية، الذي ارتفع عما هو مقدّر بمقدار 724 مليون دينار ليصل فعليا إلى 739 مليون دينار.