مدار الساعة - كتب: الدكتور صدام أبو عزام - تعتبر عملية المشاورات التشريعية أحد معايير تفعيل مبدأ سيادة القانون والذي يعتبر – سيادة القانون – أساس دولة المؤسسات والقانون ولا يكاد يخلوا دستور من النص الصريح والواضح على أهمية هذا المبدأ باعتباره جوهراً ومنطلق لمنظومة حقوق الإنسان وترسيخ قواعد العمل المؤسسي.
نظراً لما تحتله التشريعات من أهمية في حياة الأفراد ودورها في ضبط وتوجيه سلوك المجتمعات سعياً لترسيخ مضامين مبدأ سيادة القانون فالأصل أن تعبر هذه التشريعات عن آمال وتطلعات وطموحات الشعوب وتؤدي إلى تحقيق العدالة بكافة أبعادها التبادلية والتوزيعية والتدريجية.
فمسألة تطوير تشريعات تمتاز بالعدالة وتسد الاحتياج المجتمعي عملية معقدة وغاية بالأهمية، إذ أنها تبنى على تراكمات بينية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها ويجب أن تنطلق كل خطوة أو مرحلة من المراحل بشكل تراكمي في كافة مراحل العملية التشريعية، مما أصطلح على تسميته الحوكمة التشريعية.
الأمر لا يقتصر على أطر تشريعية جامدة هجينة وإنما هذه النصوص يجب أن تبقى على قيد الحياة، وأن تكون المنظومة التشريعية القائمة في أي مجتمع تترجم احتياجاته وآماله إلى رؤى واضحة وأن ترتقي بتطلعاته إلى واقع ملموس بحيث تنتقل خطط الحكومة من دائرة الأفكار الطموحة والأطروحات النظرية إلى حيز النفاذ بحيث تجد طريقها للتطبيق العملي.
أساس المشاورات التشريعية يعتمد على قدرة المؤسسات ذات العلاقة وعلى رأسها السلطة التشريعية بمأسسة عملية المشاورات التشريعية المستندة على عناصر وأركان المشاركة العامة الحقيقية والتي تكشف عن إحتياج حقيقي للفئات المتأثرة بالتشريعات فالقدرة على بناء هذا النهج الوطني يمثل محور النضال والعمل المستقبلي للمؤسسات نظراً للعوائد الوطنية التي يمكن تحقيقها من ذلك.
تستند بالضرورة هذه العملية على الحوار المنظم والفعال بين كافة الأطراف من برلمانات وحكومات ومؤسسات ووزارات ومؤسسات المجتمع المدني وجماعات المصالح والمواطنين وفق عملية منظمة مؤسسية تؤدي إلى نتائج حقيقية تعبر عن إحتياجات الشعوب والأفراد. وهذا يتطلب ان تكون من حيث المبدأ سياسة تطوير التشريعيات واضحة لا لبس فيها منظمة تبقى وفق نظام وطني يتسم بالحوكمة وان يبقى قيد المراجعة والتطوير المستمر لسد لمواكبة حركة المجتمعات المتجددة والسريعة في ظل ما يشهده العالم من تطورات متسارعة في كافة الميادين.
المشاورات التشريعية تتجاوز اللقاءات الديكورية والشكلية، فعملية تطوير التشريعيات تعتبر من جزء أصيل من عملية صنع القرار لا بل من أهم عمليات صنع القرار على المستوى الوطني، وبالتالي يجب أن تحاط بإجراءات وتدفقات عمل واضح حتى لا تبقى أو لا تكون المخرجات كالمومياء ما أن تفك رباطها ما تلبث أن تتطاير في الهواء.
فالأمر لا يتوقف عند عقد إجتماعات عامة غير منسجمة أو غير منظمة بل يجب أن تكون هذه الاجتماعات جزء من عملية صنع القرار التشريعي لا جله، فهي مرحلة من مراحل عملية المشاورات التشريعية، كما ان هذه العملية – أي عقد الاجتماعات التشريعية – تستند إلى منهجيات عمل وآليات تنفيذ مدروسة ومنهجية وبعكس ذلك سوف تكون عبارة عن اجتماعات ولقاءات وهمية وصورية لا تؤتي أكلها.
نقطة البدء في بناء نظام وطني خاص بالمشاورات التشريعية يستند إلى الإرادة المؤسسية لتبني مثل هذا النهج الوطني. وأن النهوض به لا بد أن يبنى على إرادة مؤسسية واضحة لا لبس فيها تقوم على تبني نهج المشاورات التشريعية بشكل واضح وصريح والانطلاق من بناء النظام الوطني للمشاورات التشريعية مع ضمان أن تكون كافة المؤسسات والجهات الدستورية شريك أصيل في هذه العملية.
ولا مرأ بأن عملية المشاورات التشريعية تثبت لكافة المؤسسات الوطنية التي يدخل في نطاق إختصاصها تطوير العملية التشريعية، وتعتبر جزء من مراحل العملية التشريعية الوطنية، فالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والمؤسسات الوطنية التي تتقاطع معها في مراحل العملية التشريعية مطلوب منها أن تنخرط في نهج وطني شمولي لضمان مسار إجرائي وموضوعي لتطوير ناضج في بناء التشريعات الوطنية.
فالسلطة التشريعية بغرفتيها تغدو عصى الرحى في عملية بناء التشريعات الوطنية، ولا يقع العبئ فيها على عاتق النواب فحسب بل يجب أن تكون الهياكل المؤسسية من أمانة عامة قادرة على تلبية هذا الاحتياج للنواب ضمن هياكلها التنظيمية، من خلال مراكز البحث البرلماني والتشريعي، أو تخصيص جهة تعنى بالعملية التشريعية.
التجارب والممارسات الفضلى تنوعت حيال هذه المسألة فالبعض اسند هذه المسألة لمراكز البحث البرلماني والأخر ذهب باتجاه إنشاء وحدة تنظيمية تعنى بذلك والبعض الأخر راح باتجاه تعيين خبراء مستقلين للنهوض بهذه العملية، وبعض التجارب أخذت أكثر من نموذج ، إلا أن الكل يكاد يجمع على ان هذه المسألة أولوية رئيسية من شأنها ان تساهم في دعم القرار البرلماني التشريعي وتساهم في تطوير التشريعات الوطنية وتلافي العديد من الظواهر التشريعية السلبية من مثل : الفساد التشريعي والاضطرار التشريعي وعدم الاستقرار التشريعي والتسرع التشريعي والخطاء التشريعية وغيرها من ظواهر سلبية تلحق التشريعيات الوطنية في حال عدم وجود هذا النهج.
على ضوء ذلك تعتبر هذه العملية أولوية وطنية ومؤسسية للسلطة التشريعية في إطار سعيها لترسيخ وتجذير العمل البرلماني وتمكينها من ممارسة دورها التشريعي على اكمل وجه، فالعمل يحتاج إلى إنشاء وتطوير آليات العمل في الأمانات العامة لمجلسي النواب والأعيان على حد سواء.