اذا ما اعتبرنا نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة، نسبيًا، احدى مخرجات عملية الاصلاح السياسي الاوسع، والمستند الى الرؤية الملكية، والمطالبات الشعبية، وتوصيات اللجان المتفرعة عن كل ذلك، فحرّي بنا وضعها في سياقات نقدية مُنصفة؛ توازن بين النظرية «الارادة السياسية»، والتطبيق «السلوك السياسي"؛ لتقيس بتجرد مدى كفاءة قانون الانتخاب، ومناسبته للثقافة التصويتية الأردنية، ودرجة جديّة الأردنيين في الانخراط الحزبي ضمن سياق الاصلاح السياسي، وليس التكتلات المُجتمعية من خلال أطر سياسية، وايضًا مدى قدرة بعض الاحزاب على تحمل الصدمة السياسية الأخيرة، ودرجة تأثيرها على تماسكها، واعادة تشكيل قيادات حزبية وازنة تحظى بقبول وطني وجماهيري، وسياسي.
لقد اسهمت المخاضات الفكرية، والسياسية، والاجتماعية المتكررة، ولو بشكل نسبي في تشكيل، وانضاج رؤية سياسية متقدمة، حول توقيت الاصلاح السياسّي، اكثر من شكله.
وعلى الرغم من نجاعة، واخفاق نماذج اصلاحية اقليمية، والتي ربما قد مسّها شيء من قصور الرؤية، وبعض من الخلل في التطبيق، الا أنها كانت موضع خلاف بين الأردنيين في النقاش العام من حيث الفعاليّة، والمواءمة التجريبية. نظريًا تعتبر الحراكات السياسية المتعددة الخارجية، والداخلية فواعل مؤثرة اسهمت في الوصول الى اعتماد القائمة الحزبية، كإحدى اهم ثمار قانون الانتخاب، والناتج عن عملية سياسية اصلاحية. حيث تعتبر الأولى شرطًا اساسيًا لتشكيل الحكومات البرلمانية، وهذا هو جوهر الديمقراطيات بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه؛ من خلال اسناد صلاحيات ذات مستوى تشريعي، وتنفيذي لأفراد وجهات نشأت بشكل حصري من قبل الارادة السياسية الشعبية.
لقد اسهمت الأوراق النقاشية لجلالة الملك، والخطابات السياسية الاصلاحية الموجهة من القمة الى القاعدة، والمطالبات الشعبية والنخبوية الصاعدة للقمة، في تشكيل لجنة تحديث المنظومة السياسية، والجيد بالأمر، أن العديد من توصياتها قد اعتمدت، وانتقلت الى مرحلة الممارسة في الحياة السياسية، من حيث تحديث قانوني الأحزاب، والانتخاب، اضافة لتوصيات جوهرية لتطوير الادارة المحلية، وتمكين الشباب، والمرأة. حيث كان للاوراق النقاشية والخطابات دور مهم أنتج عصفًا ذهنيًا سياسيّا، وأنشأ منطقة مشتركة من التفاهمات السياسية، والوطنية، مدفوعة بادراك مدى تأثير غياب الاصلاح المنشود على تماسك واستقرار المجتمع، ودرجة تطوره.
بالمقابل، وفيما يخص الأحزاب، فان نسب المتحزّبين الجدد بين الأردنيين كانت مثار سؤال تأسيسي مهم يستهدف الأحزاب السياسية، والمواطنين، والسلطة من حيث معايير معينة للتقييم؛ كدرجة الاستعداد للانتقال نحو المجتمع المدني بالمفهوم السياسي، والمصداقية، والثقة، والاستقطابات، وكيفية تصور أهميّة، ونشأة الأحزاب السياسية، ووظائفها، وآلية عملها، ودورها لاحقًا في التنمية الشاملة.
فنحن اذًا، أمام ثالوث مركب من المسؤولية، يتكون من الأحزاب السياسية، والمواطنين، والحكومة: فمثلًا، يتصل بالأخيرة بكل مستوياتها، معيار درجة الاستعداد للانتقال الآمن لمجتمع مدني بالمفهوم السياسي، والوطني، وهذا يستوجب اولًا وجود الارادة، والتعبير عنها من خلال خطوات مختلفة تبدأ بالخطابات والرؤى لتنتج حراكات مجتمعية نخبوية بأكثر من اتجاه، كما يستوجب ذلك ايضًا الممارسة العملية من قبل بعض المؤسسات، والتي اعتبرت لحين عقبة في ازدهار الحياة الحزبية. الحقيقة والعدالة تقتضي التمييز بين تفاوت نسب نجاح الشق الأول والثاني، فالأول يتجاوز كثيرًا الثاني؛ مدعومًا برغبة، واصرار ملكي، بينما الثاني لا زال غارقًا في حسابات قديمة، وقد حان الوقت لاستبدال العدسة. وايضًا قد تشارك الحكومة المواطنين مسؤولية معيار المصداقية، وذلك عند الحكم على ارداتها، وطرق تنفيذ تلك الارادة.
أما معايير الثقة، وكيفية تصور الأحزاب السياسية، فترتبط بالمواطنين، وقد تسهم عوامل مهمة في تشكيلها، كمستوى التعليم، والثقافة السياسية، وقوة المؤسسات الاجتماعية، كالقبيلة، او التجمعات الأقل نفوسًا. وفيما يخص معيار المصداقية، والذي برز نتيجة التباين الشاسع بين مطالبات شعبية، ونخبوية بالحكومات البرلمانية بشكل متكرر، والتي تعتبر نتاجًا للأحزاب السياسية، وبين التحّزب كعملية سياسية ونتيجة، فاننا نجد تراجعًا في درجة مصداقية بعض المواطنين الذين كانوا يطالبون بفسح مساحة أوسع للأحزاب، وعندما تحقق هذا المطلب تراجعوا، أو زهدوا، فكما تخبر الارقام بأن عدد المتحّزبين حتى 2024 دون 65 ألفاً.
وهنا قد يبرر البعض أن نسبة المتحزبين ليست ضرورية في ظل وجود المؤازرين، وهنا ينشأ السؤال–المرتبط بمعيار كيفية تصور الاحزاب من قبل المواطنين – ما الذي يدفع المواطن الأردني لأن يكون مؤازرًا لحزب معين، وليس عضوًا فيه؟ لن أجيب على هذا السؤال هنا بشكل تفصيّلي، نظرًا لضيق المساحة، وطبيعة المقال، ولكن سريعًا، اعتقد أنه التخوف الذي سكن والتصق بالأذهان منذ زمن، مضافًا لعدم فاعلية الأحزاب، اكثر منه الاشتراك السنوي–ولا يمكن انكار مساهمة الحكومات السابقة في ذلك، ولو بشكل غير مباشر- وهذا ما يقدم معيار الثقة بالاحزاب للنقاش، من حيث كونها منزوعة الدسم السياسي والفاعلية، وضعيفة البنيان المؤسسي، وبالتالي سرعة تأثرها بمتغيرات معينة.
أما الاحزاب السياسية فهي مسؤولة عن معايير الاستقطابات، والمصداقية ايضًا؛ فعندما ترتبط الأولى في القدرة على الاقناع، والانتشار الأفقي والعمودي بين مكونات المجتمع، والكفاءة، فان الثانية، مرتبطة بالممارسة وترجمة الأنظمة، والتعليمات الحزبية المكتوبة لسلوكيات سياسية على ارض الواقع، كتشكيل، أو اعادة تشكيل القيادات الحزبية العليا، ولاحقًا درجة التمسك بالوعود والبرامج الحزبية. وهنا، نلاحظ أهمية المصداقية في انجاح أي تجربة، حيث ارتبطت المصداقية بكل المكونات الثلاثة في هذا المقال، وكانت قاسمًا مشتركًا بين الحكومة، والمواطن، والحزب السياسي. ولا بد من دراسة حجم اعداد المنتسبين للأحزاب السياسية، والمستقيلين، والمهاجرين لأحزاب أخرى قبل الانتخابات وبعدها، وكل المتغيرات حول ذلك، واعتبار الحصول على المقاعد النيابية متغيراً أساسياً، الى جانب مراجعة شاملة للبرامج الحزبية، والتي خاضت الأحزاب الانتخابات الأخيرة بناءً عليها. هذا من شأنه، أن يقدم اجابات للعديد من التساؤلات المشروعة؛ للحكم المتجرد على المسؤولية المشتركة لمكونات الحياة السياسية الثلاثة السابق ذكرها.
وتجنبًا لجلد الذات، فليس من الصواب، والحكمة الحكم على الحياة الحزبية، والاصلاحات بشكل عام من التجربة الأولى، فمن الطبيعي أن تكون هناك اخطاء، أو تجاوزات، ولكن الأهم الاحتفاظ بخط ثابت لا يخفت من الارادة، والاصرار، والاصلاح. فبعض الأحزاب السياسية قدمت مؤخرًا، نوعًا من النماذج الديمقراطية الحقيقية في تغيير القيادات الحزبية من الصف الأول، هذا جيد، لكن هذه التغييرات كانت نتيجة عوامل متباينة، فقدرة بعضها على الحصول على مقاعد نيابية، ودخول اعضائها في الحكومة، يختلف عن اخفاقات البعض، ورواج أفكار معينة والتصاقها بأذهان المواطنين – لا نعلم مدى صدقيتها – ودفعهم الى اعادة النظر بدرجة ثقتهم بها، فكانت الانسحابات، والاستقالات بالجملة، وهذا من شأنه أن يقوّض تصور التجربة الايجابي بشكل عام، وبالتالي فشلها، أو صعوبة نجاحها.
بشكل آمن هنا، ولأغراض المقارنة، وتقديم النماذج الحيّة، يمكن ذكر حزب الميثاق الوطني كمثال ايجابي، سواءً من حيث نشأته ونموه المؤسسي من رحم التحديث السياسي، أو من حيث قدرته على منافسىة خصم قوي وعتيق كحزب جبهة العمل الاسلامي. فمن جهة الانتساب، يحظى بأعلى نسبة من المنتسبين تتجاوز 8 آلاف، كما حصل على ثاني أعلى المقاعد في الانتخابات الأخيرة، بواقع 4 مقاعد عامة، و17 على الدائرة المحلية، وايضًا دخول الأمين العام السابق في الحكومة، كما قدم نموذجًا في تغيير القيادات.
فالأمين العام الجديد للحزب لديه رؤية وحس وطني، ومنهجية وطنية، ومراكمة من الانجازات في مواقع عديدة، وينظر له بعيون الكثيرين كباعث للحيوية السياسية، وامتلاك القدرة على قيادة الحزب، وربما، رفع درجة الثقة بالتجربة الحزبية بشكل عام الى مرحلة متقدمة.
حزب جبهة العمل الاسلامي، كان الأكثر حصدًا للأصوات والمقاعد، ربما بسبب احداث اقليمية، أكثر منها اقناعية، ولكن بالنظر الى تاريخه، وعمق تجربته، فقد ينظر لهذا الانجاز بعين التواضع؛ مقارنة بانجازات بعض الأحزاب حديثة النشأة. ان نجاح، واستمرارية التجربة السياسية المنبثقة عن مخرجات لجنة التحديث، يعتمدان بشكل أساسي على اعتبارها، من قبل الجميع ضرورة، ومصلحة وطنية عليا لا تراجع عنها، وهي قابلة للاصلاح، والتأهيل حسب المخرجات الفعلية، والميدانية.
على كل حال، يخضع التصويت لمدى نضج الثقافة السياسية، والاجتماعية للمقترعين، وفي بعض الأحيان لأدوار مؤسسات معينة. والأهم من ذلك، كيفية تصور الاحزاب السياسية من قبل المواطنين؛ بين كونها، هياكل، وبنى تنظيمية سياسية، ووطنية فاعلة في البناء الديمقراطي، أو بين اعتبارها، أدوات أو روافع وظيفية لخدمة تمثيل اجتماعي. الاعتبار الأخير بطبيعة الحال، يؤدي لافراغها من بنيانها المؤسسي، ونكهتها السياسية، لتصبح أطراً اجتماعية أخرى، تضاف للجمعيات الخيرية، والمجالس القبلية والعائلية، وغيرها.