سواء أكانَ المراقب يحب ترامب أو يكرهه فإنه لا يملك إلا أن يعترف بأنه شخصية استثنائية (Exceptional) فهو أصبح ثاني رئيس أميركي (بعد كليفلاند قبل 127 عاماً) يعود إلى السلطة ويحكم فترتين غير متتابعتين، وهو الوحيد الذي أدانه مجلس النواب الأميركي مرتين وأوصى إلى مجلس الشيوخ بعزله، وهو الوحيد الذي ترشح لهذه الدورة الانتخابية وهو «مُدان جنائياً»، وهو الوحيد الذي فاز على سيدتين (هيلاري كلينتون، وكامالا هاريس) نافستاه في الانتخابات، وهو الوحيد الذي تعرض لمحاولتي اغتيال، وهو الوحيد الذي فاز بالرئاسة الثانية في سن متقدم (78 عاماً) ومن هنا فإنّ انتخابه سوف تكون له انعكاسات مهمة على كافة الصعد: الدولية، والإقليمية، والعربية، فما هذه الانعكاسات يا تُرى؟
أولاً: على الصعيد الدولي:
من المتوقع أن تتحسن علاقات الولايات المتحدة مع روسيا بحكم صداقة ترامب مع «بوتين»، ومن المتوقع أن تظل علاقة الولايات المتحدة تراوح مكانها مع الصين مع مزيد من التشدد معها في المجال التجاري، أمّا مع أوروبا فإن من المتوقع أن تتراجع علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، بل وحتى مع الحليف الوثيق لأميركا وهي بريطانيا حيث يحكمها «حزب العمال» حالياً والذي لا يُكن وداً كبيراً لترامب، ومن الجدير بالذكر هُنا أنّ ترامب سوف يعود إلى مطالبة دول «الناتو» بزيادة مساهمتها في موازنة الحلف وإلّا فإنه سوف يترك روسيا تفعل معها «ما تشاء!» كما صرح ذات مرة، ولعلّ التطور الأكبر الذي يمكن أن يشكله انتخاب ترامب لفترة رئاسية أخرى على الصعيد الدولي هي إنهاؤه للحرب الروسية الأوكرانية حيث ذهب إلى التصريح بأنّه يستطيع أن يُنهي هذه الحرب حتى قبل تنصيبه رسمياً في 20/01/2025!!
ثانياً: على الصعيد الإقليمي:
والمقصود بالإقليمي هُنا إقليم «الشرق الأوسط» حيث من المنتظر أن يزيد من ضغوطه على إيران من خلال فرض مزيد مما يسمه «الضغوط القصوى» عليها اقتصاديا، وعدم التهاون معها فيما يتعلق «بمشروعها النووي»، بل لا يُستبعد أن يتشارك مع صديقه نتنياهو في ضرب هذا المشروع للحيلولة دون امتلاك إيران للسلاح النووي، وبالتوازي فإن من المتوقع أن يوثق ترامب علاقاته مع إسرائيل وبخاصه أنه ينسجم سياسياً مع اليمين الإسرائيلي الحاكم الآن في إسرائيل (نتنياهو، بن غفير، وسموتريتش)، أمّا فيما يتعلق بعلاقاته مع تركيا (وهي الضلع الثالث المُهم في الإقليم مع إيران وإسرائيل) فإنّ من المتوقع أن تظل على حالها إذْ أنّ تركيا أولاً وأخيراً عضو في حلف الأطلسي، ولها حساسياتها مع روسيا بل ومع إيران أيضاً.
ثالثاً: على الصعيد العربي:
من المُنتظر أن تشعر دول الخليج العربي بالارتياح لانتخاب ترامب حيث قَوْى علاقات الولايات المتحدة معها عندما حكم في فترته الرئاسية الأولى (2016–2020) وبخاصه في مواجهة إيران الند الإقليمي القوي لدول الخليج وبالذات السعودية، ومن المنتظر بالطبع أن يعزز «بالاتفاقيات الإبراهيمية». وفيما يتعلق بالمشرق العربي فإنّ فوز ترامب سوف يشكل خطراً حقيقياً على قضية العرب المركزية فهو صديق حميم لنتنياهو، وقد سبق وأن أهدى لإسرائيل ما لا يمكن أن تحلم به: نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وغض النظر عن الاستيطان في الضفة الغربية، والقبول بالسيادة الإسرائيلية على «الجولان» السوري المُحتل، وقطع التمويل عن الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ومن الواضح أنّ اهداءَات ترامب هذه لإسرائيل كانت على حساب القضية الفلسطينية بقصد تصفيتها من خلال ما عُرف في حقبة ترامب السابقة «بصفقة القرن».
وغني عن القول إنّ هذه التصفية تضر بالمصالح العُليا للأردن الذي يأمل دائماً في حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إنّ تصفية القضية الفلسطينية كما يريد ترامب (وكما حاول فعلاً في عهدته الأولى) تأتي حكماً على حساب الأردن وبالذات فيما يتعلق بالحدود، والمياه، وحقوق اللاجئين الفلسطينيين في الأردن.
أمّا في لبنان حيث تشتعل الحرب الآن على حدوده الجنوبية فإنّ من المتوقع أن يزيد ترامب من ضغوطه على لبنان لتركيعه (إذا استطاع) وإجباره على القبول بالشروط الإسرائيلية لوقف الحرب، ومن الواجب هنا التذكير بأنّ ترامب قد يكون مع وقف الحرب ولكن بعد الاستسلام للشروط الإسرائيلية، فقد طالب نتنياهو في سياق تعليقه على الحرب الإسرائيلية على غزة «بإنهاء المهمة»، الأمر الذي فُهم بحق بأنه منح إسرائيل الفرصة لفعل كل ما يلزم للقضاء على المقاومة الفلسطينية واستئصال شأفتها وبغض النظر عن الوسائل والأساليب المستخدمة.
ولكن... إذا استذكرنا بأنّ السياسة هي «فن الممكن»، وأنّ البيئة السياسية: الدولية، والإقليمية، والعربية قد تشهد متغيرات مختلفة فهل يمكن أن يعيد ترامب حساباته في بعض القضايا؟ وهل يمكن أن يفكر بالمسائل والمشكلات السياسية «بطرائق» جديدة تفرضها «المتغيرات» الجديدة؟ لا أحد يستطيع تقديم إجابة قاطعة على مثل هذه التساؤلات ولكن ما يمكن الجزم به هو أنّ ترامب رجل «سياسي» وليس صاحب ايديولوجية راسخة ومؤطرة (Rigid)، ولذا فإنّنا يجب ألّا نعجب إذا رأينا له بعض «الرؤى» الجديدة أو «المقاربات» المختلفة على بعض القضايا السياسية سواء كانت على مستوى دولي، أو إقليمي، أو عربي، وإنّ غداً لناظره قريب!