الحالة العويصة والمحيّرة التي تمرّ بها الأمّة تستدعي مراجعة كثير من المفاهيم التي استقرَّت في الأذهان واستمرّ العرب في تعاطيها منذ نشأة هذه الأمّة، مثل مفاهيم التضحية والوفاء والإيثار والكرم والكرامة وغيرها كثير، ذلك أنّ إخضاع هذه المفاهيم للاختبار في الأوقات التي نكون في أمسّ الحاجة إليها هو ما يدفعنا إمّا إلى تصديقها وتكريسها وإمّا إلى تكذيبها والذهاب إلى مراجعتها أو تعديل مدلولاتها.
ومن هذه المفاهيم التي أضحت موضع تساؤل وتشكيك مفهوم الرجولة أو الرجوليّة بدلالالته التي تطوّرت عبر الزمن من الذكورة في المعنى المعجمي إلى البطولة والشجاعة والتزام المواقف الشريفة في المعنى الثقافي المتداول والشائع، فإنّ غياب هذا المدلول عن الساحة العربيّة، إلا ما ندر، في غمرة هذا العدوان الصهيوني الغاشم على غزّة وارتكاب أبشع صور المجازر ضدّ المدنيين العزل وسط صمتٍ عربيّ مطبق ومريب، يجعل إعادة النظر في هذا المفهوم أمراً مشروعاً، ويدفعنا إلى الاعتراف بأنّ المرأة العربية قد وقع عليها ظلمٌ بالغ عندها نَسَبَتْ ثقافتنا البطولة والشجاعة والمواقف الشريفة إلى الرجال دون النساء، وتناست ثقافتنا أنّ كلمة المروءة، التي هي جماع الفضائل الكريمة من شجاعة وإقدام وصدقٍ ووفاء وتضحية، أقرب إلى كلمة (المرأة) من كلمة (الرجل).
وقد أثبتت المرأة بالفعل في خضم هذه الأحداث والتحدّيات الخطيرة أنّ لها من المواقف الوطنية والإنسانية الشريفة ما يحق لها أن تفخر به، وأنّها امتلكت من صور الشجاعة والبطولة والإقدام والتضحية والصبر الكثير، وكم من امرأة في غزّة والضفّة الغربيّة فقدت زوجها وأطفالها وهجّرت من بيتها وعانت من الويلات ما لا تتحمّله الجبال، ومع ذلك بقيت على لسانها عبارة (الحمد لله)، ومن نساء غزّة من فقدت أبناءها جميعاً أو ابنها الوحيد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ولم تظهر استسلاماً أو انكساراً بل تقبّلت التهاني في استشهادهم في سبيل الله والوطن. وممّا لا يتطرّق إليه الشكّ أنّ هذا الصبر والصمود وهذه البطولات النادرة التي أبداها أهل غزّة في مواجهة الغزو الصهيوني الإجرامي رغم كلّ ما يلقيه عليهم الجيش الصهيوني من صواريخ وقنابل وأدواتٍ للموت والتدمير والإبادة، هذه البطولات وهذا الصمود مرجعه إلى التربية السليمة والأصيلة والمتينة التي قامت بها المرأة الغزّية لأبنائها، حيث غذّتهم بقيم البطولة والشجاعة والإقدام وعدم القبول بالمهانة والمذلّة، بالإضافة إلى الإيمان وحبّ الوطن وقوّة الإرادة والعزيمة.
ومن يتابع ما تظهر عليه المرأة الغزيّة في الأخبار اليومية التي تنقل لنا صور الفواجع والمآسي والكوارث التي يشهدها قطاع غزّة الصامد يعلم علم اليقين أنّ هذه المرأة هي حالةٌ استثنائية في تاريخ النساء صموداً وصبراً وشجاعة واحتمالاً وتربيةً وأدباً واحتشاماً، وأنها السرّ الأكبر من أسرار هذا الصمود البطولي والشجاعة المنقطعة النظير لأهل القطاع.
ولو نظرنا في المقابل إلى كثير من شبابنا العربي في أقطار الوطن العربي وانشغالاتهم الفارغة لعرفنا أنّ الرجولة بمعناها المعجمي ليست قيمة يعتدُّ بها، بل أصبحت مع الأسف في بعض الأحيان نقيضاً للمروءة والشجاعة والمواقف الشريفة، وما زلت أرى كلّ يومٍ شباباً يتسكّعون في شوارع مدننا أو يقودون سيّاراتهم بتهوّر وفظاظة وعبثيّة وهم يرفعون موسيقى السيّارات والأغاني الهابطة في الشوارع والأحياء السكنية وبين المنازل دون أي ذوقٍ أو إحساسٍ بما يجري لإخوانهم في غزّة من قتلٍ وحرقٍ وتجويع وإبادة.
وأمام هذا التنازل من شباب أمّتنا عن قيم الرجولة والرجوليّة فإنني أرفع راية التقدير لجميع النساء العربيّات وغير العربيّات اللواتي رفعن أصواتهن عاليّاً ضدّ جرائم الإبادة الصهيونية في غزّة دون أن يخشين لحظة واحدة من التهديد الذي قد يلحق مصالحهنّ الشخصيّة نتيجة هذه المواقف الشريفة.
Salahjarrar@hotmail.com