في بلد يعاني من اختناق اقتصادي؛ إنسدت أمام تجارته الحدود، وتوقفت معظم حجوزات السواح القادمين إليه، ودفع ضريبة إغلاق المضائق الدولية والمعابر، ثم تطوع أن يتقدم الصفوف لمساندة أهل غزة المنكوبة، وهو يعرف أنه سيدفع الثمن السياسي لمواقفه، فجأة تنفجر في وجهه قنبلة المقاطعة ودعوات الإضراب، ولا يجرؤ أحد، لا السياسيون ولا التجار ولا المدافعون عن حقوق العمال، أن يقولوا :"هذا غلط "، أو أن يقفوا في وجه التيار الذي حركته عواطف شعبية صادقة، وانفعالات سياسية غير مفهومة، تبحث عن انتصار، أي انتصار، حتى لو كان بإطلاق النار على اقدامنا.
من تضرر أكثر من المقاطعة: نحن أم الشركات العالمية؟ اقتصادنا الضعيف والفقير أم إمبراطوريات رأس مالها بمئات المليارات ؟ لمن وجهنا رسالة المقاطعة : لمعاقبة الشركات التي يعمل فيها الآلاف من أبنائنا، وتعتمد في شراء موادها على أسواقنا، أم للكيان المحتل، والعلامات التجارية الكبرى التي لن تتأثر بخسارة رزمة ملايين من الدولارات؟ ثم لنفترض أن المقاطعة واجب أخلاقي، فلماذا لم نقاطع منتجات كل الدول التي انحازت ضدنا في الحرب، هل الانتقائية موقف أخلاقي أيضا ؟ معقول نختار شركات محددة، وتساهم في رفد اقتصادنا، ثم نصرف النظر عن ماركات بضائع ومنتجات نستوردها ونستهلكها من هذه الدول ذاتها، وربما نستخدم بعضها للترويج للمقاطعة، دون أن نسأل أنفسنا : كيف تعطلت عقولنا أمام هذه «الشيزوفرينيا» التي نمارسها بدون وعي، وبلا حساب لأي مصلحة وطنية؟
ندعم أهلنا في غزة ؟ نعم، وبكل ما لدينا من إمكانيات، لكن هذه المقاطعة لا تصب في أي قناة تدعمهم، كما أنها لن توقف الحرب عنهم، ولن تكبح جماح حلفاء وداعمي العدوان الذين احتشدوا ضدهم، ما تفعله حملة ( الاستغناء) التي أشهرناها، دون غيرنا، كسلاح، لن يتجاوز دغدغة مشاعرنا، وإيهامنا أننا قمنا بالواجب، وانتصرنا على أعدائنا، لكن النتيجة أننا خسرنا على جبهتن: جبهة الاقتصاد الذي يشكل أخطر نقطة ضعف يمكن أن يتسلل منها إلينا أعداؤنا لخلخلة أمننا الداخلي، وجبهة الامتحان الوطني الذي رسبت فيه شركاتنا المحلية ( كما رسب به آخرون زايدوا على مواقفنا)، حين مارست المضاربة ضد منافسيها باسمنا وباسم غزة، ثم إنتزعت منا «الفلوس» والدعم، لكنها -للأسف -بخلت على أبنائنا بوظيفة، وعلى أهل غزة بحملة مساعدة، تماما كما بخل الناكرون من بعض أبنائنا على بلدنا بكلمة : شكرا،
يا خسارة.