مدار الساعة - كتب: أ.د. محمد الفرجات - تقوم العقبة الأردنية على موقع جيولوجي فريد يحمل في طياته مفاتيح لحقب حضارية وتاريخية متعددة. هذه المدينة الساحلية ليست فقط ميناءً استراتيجيًا حديثًا؛ بل هي جزء من حوض رسوبي خسفي مرتبط بحفرة الانهدام العظيم، وهي منطقة نشطة تكتونيًا تمتد على طول الشرق الأوسط. ويطرح هذا الموقع تساؤلات عديدة حول تاريخ المنطقة وما قد يحمله تحت سطحها، حيث يثير وجود غطاء رسوبي بسمك 2000 متر التساؤل عن احتمال وجود مدن تاريخية مطمورة تحت المدينة الحالية.
الخصائص الجيولوجية للعقبة
تقع العقبة على امتداد حوض رسوبي عميق نشط يهضم ما يتلقى من رسوبيات، نشأ نتيجة لحركة الصفائح التكتونية على طول صدع البحر الأحمر الذي يتوسع ببطء.
تشير الدراسات الجيوفيزيائية إلى أن سماكة الغطاء الرسوبي فوق صخور القاعدة تحت العقبة تصل إلى 2000 متر، ويعود ذلك إلى حركة انفتاحية مستمرة للصدع، والتي ترحب بترسب المزيد من الرواسب القادمة مع الفيضانات والسيول، خصوصًا تلك التي يجلبها وادي اليتم الذي يمر عبر جبال النقب، حاملاً معه رواسبه المتراكمة في فترات الفيضانات المتكررة.
تشير هذه الخصائص التكتونية إلى بيئة جيولوجية ديناميكية تسمح بتراكم الرواسب على مر الزمن، مما قد يوجد مراحل طمر عديدة يمكن أن تكون طمرت معها بقايا مستوطنات قديمة أو مدن بكاملها.
إن توسع هذا الصدع عبر العصور الجيولوجية قد ساعد في تكوين خليج العقبة ذاته، الذي لطالما كان نقطة جذب مهمة للقوافل والمستكشفين والرحالة منذ آلاف السنين.
دلائل جيوفيزيائية وآثار تاريخية محتمَلة
مع التقدم في الدراسات الجيوفيزيائية، فقد تظهر إشارات تدل على وجود طبقات رسوبية متراكمة قد تخفي آثارًا لمستوطنات بشرية قديمة.
من المعروف أن خليج العقبة، الواقع على مسار تجاري استراتيجي يربط بين قارتي آسيا وإفريقيا، كان مركزًا حضريًا حيويًا عبر العصور، حيث مرت به حضارات قديمة كالبحرية المصرية، والنبطية، والرومانية، والإسلامية. وقد يشير النموذج الافتراضي المبني على الدراسات الحديثة إلى احتمال وجود عشرات المدن أو القرى التاريخية التي كانت قائمة شمال الخليج ودفنت تحت الرواسب نتيجة للتغيرات الجيولوجية والفيضانات الكبيرة.
نماذج زلزالية وفيضانات
تنبع فكرة وجود مدن مطمورة تحت العقبة من الفهم المتزايد لديناميكيات الصدوع النشطة والتغيرات الجيولوجية المستمرة في المنطقة. ويفترض النموذج أن الفيضانات، أو حتى الزلازل، قد تكون تسببت في دفن بعض هذه القرى أو المدن. ووفقًا لهذا التصور، فإن سطح حوض العقبة قد شهد عدة موجات من التطور والطمر، حيث تم طمر مدينة أو مستوطنة بفعل الأحداث الطبيعية، لتبني حضارة لاحقة فوق أنقاضها، في عملية تكررت على مدى القرون.
تعتبر الفيضانات المتكررة التي تشهدها منطقة العقبة مصدرًا مهمًا للرواسب، حيث يجلب وادي اليتم على وجه الخصوص كميات ضخمة من الطمي والرمال، والتي ترسبت في مناطق منخفضة قرب الشاطئ. هذه الطبقات المتعاقبة من الرواسب تشير إلى احتمال دفن بقايا أثرية تحتها، والتي قد تكون تعود إلى حضارات مختلفة تواجدت شمال خليج العقبة.
الأدلة الأثرية المحتملة والبحث المستقبلي
بالرغم من أن الكشف عن المدن أو المستوطنات المدفونة يحتاج إلى أدوات استكشاف متقدمة، إلا أن التقنيات الحديثة في التصوير الجيوفيزيائي، مثل تقنيات الرادار المخترق للأرض والمسح الزلزالي، قد تفتح نافذة جديدة للكشف عن طبقات أثرية تحت الأرض. هذه التقنيات، التي تُستخدم عادةً في البحث عن مكامن النفط والغاز، يمكن توجيهها أيضًا لاكتشاف بقايا أثرية مدفونة. ويمكن للباحثين استخدام هذه الأدوات لرسم خرائط ثلاثية الأبعاد للطبقات الجوفية ومعرفة ما إذا كانت تحتوي على بقايا تاريخية.
هل هناك مدن تاريخية مطمورة؟
يعد خليج العقبة من الموانئ التاريخية التي استقطبت الحضارات بسبب موقعه المميز. ويعتقد أن هناك العديد من القرى أو المستوطنات الصغيرة التي قد تكون ازدهرت وانتهت عبر العصور، دفنتها الكوارث الطبيعية أو الأحداث الجيولوجية. إن وجود طبقات متعاقبة من الرواسب قد يشير إلى أن ما تحت العقبة ليس مجرد صخور رسوبية، بل ربما يحمل آثار حضارات قديمة.
إن الفكرة القائلة بوجود مدن مطمورة تحت العقبة تفتح آفاقًا جديدة في دراسة تاريخ المنطقة وجغرافيتها.
ومع تزايد الاهتمام بالاستكشافات الجيوفيزيائية، فإن العقبة قد تكون على موعد مع اكتشافات تاريخية مثيرة، تعيد بناء تاريخ المنطقة وتوضح دورها كميناء استراتيجي وحضاري. وفي الوقت الذي تُبذل فيه الجهود لفهم الحوض الرسوبي تحت العقبة، فقد يصبح المستقبل أكثر وضوحًا في الكشف عن طبقات التاريخ المطمورة تحت المدينة، لتعود العقبة، مرة أخرى، بوابة للتاريخ بامتياز.