لعلّ كلمة (الصمت) من أكثر الكلمات وروداً على ألسنة الكتّاب والمثقفين والمفكّرين والسياسيّين والمحلّلين بل وعامة الناس في هذه الأيّام، وذلك في سياق الحديث عن ردود الفعل العربيّة والإسلاميّة والدولية على حملة الإبادة غير المسبوقة التي يقوم بها جيش الصهاينة وبدعم أميركي وغربي مطلق في قطاع غزّة.
ويأتي ورود هذه الكلمة في سياق الاستغراب والاستهجان والاستنكار للصمت المتعاظم والمتزايد في مواجهة الإجرام المتزايد والمتعاظم أيضاً الذي يمارسه الصهاينة ضدّ المدنيين من أهل غزة قتلاً وذبحاً وقصفاً ونسفاً وتجويعاً وتعطيشاً وتهجيراً وتقطيعاً وحرماناً من كلّ مقوّمات الحياة.
ومن الناس من يتساءل عن سرّ هذا الصمت، ولا سيّما الصمت العربي والإسلامي، وهو صمتٌ يثير الحيرة والاستهجان البالغ لكون الذين يتعرّضون للإبادة والقتل والتجويع والتشريد هم عربٌ من أبناء جلدتهم وتربطهم بهم أواصر الدم والنسب والتاريخ والثقافة وغيرها. وقد بلغ هذا التساؤل والاستهجان إلى حدّ التشكيك بالارتباطات والانتماءات والولاءات وغير ذلك جراء برودة المواقف العربيّة أمام هول المشهد الذي تمرّ به غزّة وفظاعة الجرائم وبشاعتها التي يرتكبها الصهاينة.
إنّ الصمت الذي ينتقده هؤلاء جميعاً له معنى خاص وجديد يتماهى مع تنامي حدّة الشكوى من هذا الصمت ومع تنامي نزعات التشكيك والاتهام، فهو ليس الصمت بالمعنى اللغوي الحرفي المعروف للكلمة الذي يعني السكوت أو الكفّ عن الكلام أو نقيض الكلام، وإنْ كان هذا المعنى أيضاً وارداً، وهو بهذا المعنى صمتٌ بالغ الخطورة إن كان ممّا يلتزم أولو الأمر ممّن يقدرون على قول كلامٍ مؤثر يستطيع أن يغيّر مجرى الأحداث أو يوقف هذه المجازر، وهو بهذا المعنى أيضاً صمتٌ بالغ الخطورة إن كان يلوذ به أهل الرأي والفكر والقلم والثقافة الذين يعدّ صمت?م نوعاً من أنواع التولّي يوم الزحف، فالصمت في مثل هذه الشدائد والظروف العصيبة لا يجوز من أيّ إنسانٍ حرٍّ شريف وصادق ووطنيّ.
وإلى جانب هذا المعنى اللغويّ للصمت توجد معانٍ أخرى، فغضُّ الطرف عن مشاهد الدم والأشلاء والدمار هو صمتٌ بالغٌ مُريب، وصمّ الآذان عن استغاثات الأمّهات وصرخات الأطفال الجرحى والجوعى هو صمتٌ من أحطّ درجات الصمت، والتشاغل بشؤون الحياة اليومية بعيداً عن أخبار غزّة والضفّة هو صورةٌ من صور الصمت.
ومن الناس من يبحث في الصمت عن الذهب تطبيقاً لقاعدة: إذا كان الكلام من فضّة فالسكوتُ من ذهب، والعرب مولعون بعشق الذهب. ومنهم من يعبّر بالصمت عن الرضا والقبول عملاً بالقاعدة الشرعيّة السكوت علامة الرضا.
والصمت الحقيقي الفاضح في مثل هذه الحال هو الإحجام عن العمل مع القدرة على القيام به، وصور القيام بالعمل الذي يمكن عن طريقه لجم العدوّ وكبح جماحه وإيقافه عند حدّه هي صورٌ لا تحصى أقلّها التبرّع بالمال والطعام والملابس والدواء، يليه في الأهميّة القيام بالواجب الوطني والقوميّ المناسب لإرغام العدوّ على وقف عدوانه، ولمــّا كانت هذه الصور كثيرة وكان القيام بها ممكناً، ولم يقم بها إلاّ قلةٌ قليلةٌ من البلدان والناس كان لا بدّ من الشكوى من استمرار الصمت العربيّ على الرغم من كثرة الخيارات والبدائل وفرص التعاطي مع هذ? العدوان الغاشم وتصاعده يوماً بعد يوم.
ولئن كان المعنى اللغوي للصمت هو السكوت أو الكفّ عن الكلام، والمعنى المجازي للصمت هو عدم القيام بفعلٍ مناسب، فإنّ بين المعنيين اللغوي والمجازي روابط تقرّب بينهما، ولا سيّما في حالة العدوان الصهيوني المتواصل على غزّة والضفّة الغربيّة ولبنان، فإنّ القيام بعملٍ مناسبٍ للردّ على هذا العدوان أو التصدّي له يعدّ كسراً لحالة الصمت لأنّه لا بدّ أن يكون له دويٌّ وصوتٌ وحركةٌ ذات أصواتٍ تقطع حبل الصمت، فأصوات الرصاص والصواريخ وانفجارات العبوات الناسفة هي ممّا يدخل في عداد اللغة والكلام.
وإلى جانب الصمت الذي يعني الإحجام عن العمل، والكلام الذي يعني القيام بالعمل المناسب لنوع التحدّيات وحجمها، فإنّ ثمّة جانباً آخر من الصمت له دلالاته الخطيرة فيما يتّصل بالعدوان الصهيوني الإجرامي المتواصل، وهو مدى التفاعل العاطفي مع المذابح التي يقوم الصهاينة بارتكابها ضدّ المدنيين العزل، فإنّ التفاعل العاطفي مع هذه الأحداث أصابه الكثير من الوهن والتراجع نتيجة طول مدّة الأحداث، على الرغم من اشتداد الجرائم الصهيونية وتصاعدها وتنوّعها، وهذا الوهن والتراجع في التفاعل العاطفي بل وتفاعل المهتمين والمتابعين من أهل?الفكر والرأي، هو في نظري أشدّ خطراً من الإحجام عن الإقدام ومن الإحجام عن الكلام، لأنّ الموقف العاطفي هو محرّكٌ أساسيّ وفاعل للقول والعمل على حدّ سواء، فإذا تراجع هذا الموقف أو أصابه الوهن والضعف والملل فإنه يجعل صاحبه مواطناً كان أو زعيماً أو مفكراً أو أديباً أو فناناً أو غير ذلك شريكاً في الصمت بكلّ معانيه اللغوية والمجازية والاصطلاحية السلبيّة وشريكاً في تحمّل المسؤولية.
Salahjarrar@hotmail.com