مضى أكثر من عام على اندلاع حرب غزة، التي كان من تداعياتها قيام جهات فاعلة من غير الدول (الحوثيين) باستهدافات لممرات الشحن الدولي الذي يعتقد الكثير ضرورة أهمية ضمان سلامة هذه الممرات للشحن التجاري. ومع ذلك، يبدو أن الوضع الأمني في البحر الأحمر وخليج عدن لا يجتذب الكثير من الاهتمام من جانب المجتمع الدولي عمومًا، بما في ذلك المشتغلين في مجال القانون الدولي العام، لجهة التوصيف القانوني للعمليات العسكرية التي تقوم بها بعض الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة و المملكة المتحدة، وما إذا كانت هذه العمليات تندرج ضمن حق الدفاع عن النفس الفردي أو الجماعي وفق منطوق المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة. وحقيقة فإن ضعف الاهتمام بالوضع الأمني في البحر الأحمر وخليج عدن، يرجع لعدة أسباب. أولًا؛ في العمليات العسكرية التي تحدث في البحر (بعكس النزاعات التي تحدث في البر)، لا توجد هناك معلومات مؤكدة من مصادر مستقلة، حيث لا تستطع غالبًا أي جهة إعلامية من التواجد في مسرح العمليات العسكرية البحرية، وعلى هذا تقتصر المعلومات على البيانات الصادرة من الحكومات أو الأساطيل العاملة في منطقة العمليات أو من الجهات الأخرى الفاعلة من غير الدول (الحوثيين في حالة البحر الأحمر). وهذه البيانات عادة ما تكون خاضعة للرقابة العسكرية كما هو الحال مثلًا مع بيانات القيادة الوسطى الأمريكية، أو تتضمن مبالغات وتوجيه عقائدي كما هو الحال مع بيانات الحوثيين. ثانيًا؛ العمليات العسكرية في البحر، منفصلة عن القضايا الإنسانية مثل إلحاق الضرر بالمدنيين الأبرياء، وهي القضايا ذات الأهمية الكبيرة للمجتمع الدولي. لذا فإنّ الأحداث التي تجتذب اهتمامًا كبيرًا من المجتمع الدولي مثل تلك المتعلقة بالقضايا الإنسانية محدودة. على الرغْم أن الصراع في البحر الأحمر له آثار على القضايا الإنسانية في اليمن (تحديدًا)، حيث بدأت تداعياته تتجلى في أمرين اثنين. الأول؛ انتقال العمليات العسكرية من البحر إلى البر، وما ينتج عنه من تعرض المدنيين والبُنى التحتية للغارات الجوية. ثانيًا؛ ارتفاع أسعار السلع الأساسية على المواطنين اليمنيين، بسبب ارتفاع تكلفة الشحن إلى المواني اليمنية التي تقع في منطقة العمليات العسكرية.
وبالعودة، إلى موضوع المقال، فإن توصيف الوضع الأمني الحالي في البحر الأحمر، يتطلب تحليل البيانات ذات الطبيعة العسكرية الصادرة عن القيادة المركزية الأمريكية أو القوات الجوية/ البحرية الملكية البريطانية.
نفذت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قصفًا جويًا على منشآت عسكرية للحوثيين داخل أراضي اليمن أول مرة في 11 يناير 2024، وأبلغت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مجلس الأمن بهذا القصف الجوي وفقًا لأحكام المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة باعتباره ممارسة لحق الدفاع الفردي عن النفس بناءً على تلك المادة (أنظر: "رسالة مؤرخة 12 يناير 2024 من الممثل الدائم للولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة موجهة إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة". و "رسالة مؤرخة 12 يناير 2024 موجهة إلى رئيس مجلس الأمن من الممثل الدائم للمملكة المتحدة لدى الأمم المتحدة").
أيضًا فيمَا يتعلق بهذه الضربات، أصدرت الولايات المتحدة و المملكة المتحدة والدول الداعمة للضربات (الدنمرك وألمانيا ونيوزيلندا وجمهورية كوريا) بيانًا مشتركًا يقول إن "الضربات المشتركة" على أراضي اليمن ردًا على الهجمات غير القانونية المستمرة من قبل الحوثيين كانت "وفقًا للحق المتأصل في الدفاع عن النفس الفردي والجماعي، بما يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة"، وأن "هذه الضربات الدقيقة كانت تهدف إلى تعطيل وتدهور القدرات التي يستخدمها الحوثيون لتهديد التجارة العالمية وحياة البحارة الدوليين في أحد أكثر الممرات المائية أهمية في العالم. (انظر: "بيان مشترك من حكومات الولايات المتحدة والدنمرك وثماني دول أخرى، 11 يناير 2024").
بالمقابل، عارضت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ودول أخرى، الضربات التي شنتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أراضي اليمن في 11 يناير، وتراجعت عن قرارها بالمشاركة في "تحالف حارس الازدهار"، وشكلت عملية "أسبيدس" التابعة للاتحاد الأوروبي، من أجل إظهار موقفها بوضوح من التمييز بين نفسها وأفعال الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ولتوضيح هذا الموقف، أكد الاتحاد الأوروبي عند تأسيس عملية "أسبيدس" أن العملية لا تتصور أي مشاركة في الضربات ضد الحوثيين ولن تعمل في البحر إلا بتفويض مرافقة ودورية ومراقبة واعتراض فقط.
بالنظر إلى البيانات العامة للقيادة المركزية الأمريكية حول هجمات الحوثيين، نلاحظ بأنها لا تشر إلى المحاولات العدّة للاستيلاء على السفن المأهولة باعتبارها "قرصنة"، فالمادة (101) من (اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار) تُعّرف القرصنة بأنها "أي عمل غير قانوني من أعمال العنف أو الاحتجاز أو أي عمل سلب يرتكب لأغراض خاصة من قبل طاقم أو ركاب سفينة خاصة أو طائرة خاصة". وبناءً على هذا النص، فإنه من غير الممكن للولايات المتحدة استخدام (اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار) للحماية من الهجمات من الطائرات دون طيار والصواريخ التي تطلق من الأراضي اليمنية المسيطر عليها من قبل الحوثيين، أو السفن السطحية غير المأهولة، أو السفن تحت الماء غير المأهولة. لذلك، نجد أن بيانات القيادة المركزية الأمريكية تقول أنها تواجه هجمات الحوثيين، على أساس "الدفاع عن النفس". ويبدو واضحاً هنا أن هذا "الدفاع عن النفس" ليس "حق الدفاع عن النفس" المنصوص عليه في المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، الذي أشارت له الولايات المتحدة في رسالتها الأولى لمجلس الأمن الدولي، ولكنه يُفهم على أنه "استخدام القوة" كـ "تدابير مضادة متناسبة". لذلك، نجد جميع البيانات اللاحقة للقيادة المركزية الأمريكية قد حذفت عبارة "دفاعًا عن النفس". ويُعتقد أن هذا الحذف كان لتجنب الخلط مع "ممارسة حق الدفاع عن النفس" في سياق الهجمات داخل الأراضي اليمنية.
كذلك، استندت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لقرار مجلس الأمن الدولي باعتباره يمثل الأساس القانوني للهجمات الأمريكية والبريطانية على مواقع الحوثيين في اليمن، حيث أوضح القرار رقم 2722 (2024)، "أن لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الحق، وفقًا للقانون الدولي، في الدفاع عن سفنها ضد الهجمات، بما في ذلك الهجمات التي تؤثر على حقوق وحريات الملاحة". ويؤكد نص القرار "أنه بموجب القانون الدولي، يجب احترام ممارسة حقوق وحريات الملاحة، كما ينص على أن للدول الحق في الدفاع عن سفنها ضد الهجمات".
ورغم أن الولايات المتحدة استشهدت بحق الدفاع عن النفس، فإنها لم تقدم أي مبرر إضافي لممارسة هذا الحق ضد الحوثيين، وهي حركة غير تابعة لدولة داخل أراضي دولة أخرى ــ اليمن ــ التي لم تكن مسؤولة عن الهجوم المسلح المعلن من قبل الحوثيين ضد الولايات المتحدة. ولا يوجد أي ذكر لموافقة حكومة اليمن الشرعية على الهجوم على الحوثيين داخل آراضيها. إلا في حال أن الولايات المتحدة ومعها المملكة المتحدة طبقتا مبدأ "عدم الرغبة وعدم القدرة" على موقف حكومة الجمهورية اليمنية. ومع ذلك، فإن أي ممارسة عبر الحدود لحق الدفاع عن النفس لابدَّ أن تكون ضرورية حتى تكون قانونية. ولهذا السبب نجد أن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، في حالات الدفاع عن النفس ضد الجماعات الإرهابية في سوريَا، قالت أن "حكومة الدولة التي يقع فيها التهديد غير راغبة أو غير قادرة على منع استخدام أراضيها من قبل الجماعات و المليشيات غير التابعة للدولة المسؤولة عن مثل هذه الهجمات". وليس من الواضح ما إذا كان إغفال "مبدأ عدم الرغبة أو عدم القدرة" في الحالة اليمنية مجرد إغفال أو ما إذا كان من المفترض أنه متوفر تلقائيًا. ففي حالة اليمن توجد سلطات مستقرة في أجزاء من الدولة على ثلثي مساحة اليمن، والحكومة غير قادرة على منع استخدام الأراضي الخاضعة لسيطرة الحوثيين بحكم الأمر الواقع لشن هجمات مسلحة على السفن التجارية أو العسكرية أو حتى على دول أخرى.
كذلك، فإن قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2722 (2024)، لم يؤسس لأساس قانوني لاستخدام القوة من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد مواقع الحوثيين في اليمن، فلم يكن القرار "قرارًا" بموجب الفصل السابع ولم يقدم أي تفويض لاستخدام القوة. بل على العكس من ذلك، فقد أكد القرار أن "القانون الدولي، كما ينعكس في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، يحدد الإطار القانوني المنطبق على الأنشطة في المحيطات، بما في تلك مكافحة الأنشطة غير المشروعة في البحر". وبالإضافة إلى ذلك، أكد مجلس الأمن صراحة "احترامه لسيادة وسلامة أراضي الدول الساحلية على البحر الأحمر". وكما أشار ممثل سويسرا في مجلس الأمن، فإن حق الدول في الدفاع عن سفنها من الهجوم، ليس هو نفسه الحق في استخدام القوة دفاعًا عن النفس ضد المهاجم.
يتضح لنا مما سبق، بأن الولايات المتحدة في الحالة اليمنية طبقت تفسيرها الواسع بشأن الدفاع عن النفس الذي تعتمده منذ أمد بعيد، حيث تعتبر أي استخدام للقوة ضد سفينة ترفع علم الولايات المتحدة ـ بغض النظر عما إذا كانت سفينة حربية أو تجارية ـ بمنزلة هجوم مسلح على الولايات المتحدة. ومن الصعب التوفيق بين هذا التفسير الأمريكي الواسع للحق في الدفاع عن النفس في المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي كما ينعكس في أحكام محكمة العدل بهذه الخصوص. إن حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة يقتصر على استخدام القوة الضرورية والمتناسبة لصد "هجوم مسلح". ولا يسمح هذا الحق للدولة باستخدام القوة لحماية أمنها أو مصالحها الاقتصادية أو غيرها من المصالح. ثم أن حماية الحقوق والحريات الملاحية ضد الهجمات غير القانونية، مهما كانت القضية جديرة بالاهتمام، لا تسمح باستخدام القوة في الدفاع عن النفس، فوفقًا لأحكام محكمة العدل الدولية لا يوجد حق للدفاع عن النفس ضد الهجمات على الشحن التجاري الدولي. ولقد تبنت محكمة العدل الدولية تفسيرًا تقييديًا للحق في الدفاع عن النفس. بينما التفسير الواسع لمفهوم الدفاع عن النفس الذي تنادي به الولايات المتحدة وتؤيده المملكة المتحدة و دول أخرى في الحالة اليمنية، يتضمن خطر الخروج عن نطاق السيطرة بسبب سوء التقدير المتوقع في مثل هذه الحالات، مما قد يؤدي إلى توسيع الصراع القائم في المنطقة، وبذلك يتعارض مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وهو ما حذر منه المبعوث الخاص للأمين العام للأمم لليمن عدة مرات، وكان آخرها في 15 أكتوبر 2024 عندما وصف في إحاطته لمجلس الأمن الأحداث في البحر الأحمر بين الحوثيين من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، بأنها "تصعيد انتقامي يهدد آمال السلام والاستقرار و يُشغل التركيز بعيدًا عن الحاجة الملحة لمعالجة الأزمة الداخلية في اليمن".
* ملحوظة: المقال جزء من دراسة للمؤلف بعنوان؛ الممارسات القانونية في الصراعات العسكرية البحرية.