الدروس المــُسْتقاة من عملية طوفان الأقصى وما أعقبها من أحداث بعد مرور عام كامل على تلك العملية هي دروسٌ لا تحصى، لكنّ العبرة في مدى استفادة العرب والمسلمين شعوباً وأنظمة من هذه الدروس، حيث إنّ إخضاع هذه التجربة للتقييم والتحليل واستخلاص العبر هو شرطٌ أساسيٌّ من شروط التخطيط لمستقبل أفضل وتجاوز النتائج والأضرار والاختلالات والثغرات، وإلاّ سوف تبقى أمّتنا عرضة لمزيد من التراجع والضعف والانحدار والتفكك والانهيار ممّا يفضي- لا قدّر الله- إلى سقوطها وضياعها الذي قد لا تتعافى منه قبل عقودٍ طويلة من الزمن.
إنّ كلّ درْسٍ من الدروس المستقاة من أحداث العام الذي مضى قد يحتاج إلى مجلّداتٍ من القراءة والتحليل وإيراد التفاصيل، وأدعو الكتّاب والمفكّرين والباحثين والمثقفين العرب إلى توجيه جزء من دراساتهم إلى استخلاص هذه الدروس والعبر كي تسهم في تعزيز وعي الأمّة بواقعها وبما يحيط بها أو يحاك لها وما ينبغي لها أن تسعى إلى تحقيقه وبلوغه.
إنّ أهمّ درْسٍ من دروس الأحداث التي وقعت خلال العام الماضي هو ما يتّصل بالتضامن العربي الذي كان شبه مفقود خلال تلك الأحداث، فقد سعى الاحتلال الصهيوني وداعموه الغربيّون منذ نشوء الاحتلال إلى القضاء على فكرة الوحدة العربيّة وعدم السماح بأيّ تقارب أو تحالفٍ حقيقيّ بين بلدين عربيّين أو إسلاميين، وعملوا على تعزيز أسباب الفرقة والتناحر وتعميقها ليس فقط بين الأنظمة العربيّة بل بين الشعوب أيضاً، وزرعوا الفتن بين الشعوب من منطلقات طائفية ومذهبيّة وقُطريّة وتاريخية وغيرها.
ولمــّا استعر العدوان الوحشي على غزّة كان التنافر بين العرب قد بلغ أشدّه فعاقهم عن الوقوف إلى جانب غزّة بل كاد أن يعيقهم عن التعبير عن رفض هذا العدوان، إلاّ ما ندر، وأصبحت أيّ محاولة لنصرة أهل غزّة من أيّ بلدٍ عربي تعدّ «تدخّلاً في ما لا يعنيه» وعدواناً على دولة الكيان. وانصبّت جهود الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب على تهيئة كل الظروف لاستفراد الكيان الصهيوني بغزّة. وأثبت حرصُ الاحتلال وداعميه على الاستفراد بكلّ بلد عربي على حدة أنّ الاحتلال يتجنب بكل الوسائل أن يواجه بلدين عربيين أو أكثر معاً لأنّ ذلك يعني هزيمته، وما يزعمه الاحتلال من خوض حربٍ على سبع جبهات هو مجرّد كذبة يقصد منها نفي الاعتقاد بأنّ وقوف بلدين عربيين أو أكثر في مواجهته سوف يلحق به الهزيمة. ولو كان هذا الاحتلال يدرك أن ثمّة تضامناً عربيّاً حقيقيّاً وقوّة عربيّة موحّدة لما جرؤ على ارتكاب ما يرتكبه من مجازر في غزّة والضفّة الغربيّة ولبنان وغيرها، ولما جرؤ رئيس وزراء الاحتلال بالتوعّد بتغيير خارطة ما يسمّى الشرق الأوسط برمّته، ولذلك فإنّه لا مناص أمام الدول العربيّة والإسلامية من تخطّي حالة التردّد التي يعيشونها وتجاوز كلّ التناقضات والخلافات والانقسامات العبثية التي تشلّ حركتهم وتكلّفهم أمنهم وكرامتهم وحرّيتهم وأرضهم ومقدّراتهم وثرواتهم.
ومن دروس الطوفان درس العلاقات العربيّة الدولية، فقد أثبتت أحداث هذا الطوفان أنّ العرب لم يحسنوا اختيار أصدقائهم وحلفائهم، وأنّهم أخفقوا كثيراً في التعامل مع هؤلاء الحلفاء الذين استمرّوا في خداعنا والكذب علينا وابتزازنا منذ أكثر من قرنٍ من الزمن، ونحن ما زلنا نثق بهم ونعتمدهم وسطاء بيننا وبين عدوّنا ومستشارين لنا في كلّ خلاف داخلي يقع بيننا، وما زلنا نغمض أعيننا عن انحيازهم الكامل والمطلق والصريح والمعلن إلى عدوّنا ويشاركونه وصفنا بالحيوانات والإرهاب وكلّ الصفات الذميمة، ويدعمونه في قتل أبنائنا في فلسطين بأحدث الأسلحة والمعلومات الاستخبارية والخطط وحملات الذباب الإلكتروني والمستشارين والجنود وغير ذلك ممّا لا يحصى وما لا يخفى على أحدٍ منّا ولا على أي بلدٍ عربيّ.
وقد أثبتت أحداث الطوفان وما أعقبها من أحداث أنّ هؤلاء الأصدقاء اللدودين لا يقلّون عداوة لنا عن الصهاينة ولا يحترمون الصداقة ولا يبحثون عن أيّ مصلحة لنا وإنّما يبحثون عن مصالحهم ومصالح ربيبتهم (الكيان الصهيوني) في أرضنا المحتلّة.
وقد آن الأوان لإعادة تقييم هذه العلاقة وتصويبها بما يخدم مصالحنا القوميّة أوّلاً وأخيراً، كما آن الأوان أن نراجع وضع علاقتنا بالمنظمات الأمميّة كافّة مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية ومنظمات حقوق الإنسان غيرها، ما دمنا لم نحقق منها أيّ فائدة، وما دامت هذه المنظمات تحمي الكيان الصهيوني وتدافع عنه وتعزّز احتلاله بصور كثيرة.
ومن أهمّ الدروس المستفادة من أحداث الطوفان أنّ الوطن العربي كلّه أمام عدوٍّ غادرٍ لا يحفظ في الناس إلاًّ ولا ذمّة، ولا يتورّع عن نقض العهود والاتفاقيات المبرمة عندما يرى مصلحة له في ذلك، كما أنّه يستهين كلّ الاستهانة بأرواح العرب والمسلمين ولا يتورّع عن استخدام كلّ ما لديه من وسائل القتل والتدمير وإزهاق الأرواح وارتكاب المجازر وقتل الأطفال والنساء والشيوخ وتلاميذ المدارس وهدم المساجد والكنائس والمدارس والجامعات والتنكيل بالأسرى وقتلهم بروحٍ انتقامية حاقدة بالغة الوحشية، فكيف لعدوٍّ هذا شأنه أن يؤمن شرّه متى قبلنا بمجاورته لنا أو عقدنا الصلح معه أو رضينا بالتعايش معه أو تعاونّا معه في أيّ أمرٍ كان.
ومن الدروس المهمّة بعد اكتشاف حقيقة هذا العدوّ الغادر وداعميه الأكثر غدراً أنّ اعتماد العرب في ما يستهلكونه من منتجات وسلعٍ ومصنوعات على غيرهم ولا سيّما في تكنولوجيا الاتصال ومصادر المعرفة قد حوّلهم إلى رهائن لدى تلك الدول تتيح لهم هذه المنتجات متى شاءت وتحبسها عنهم متى أرادت، وقد بلغ خطر هذه المنتجات حدّاً كبيراً عندما أصبح بإمكان الشركات المنتجة وبالتعاون مع الاحتلال الصهيوني تفخيخ أجهزة الهواتف وتفجيرها بين أيدي مستخدميها، وقد كشفت هذه الأحداث أنّنا في الوقت الذي كنّا نعتمد فيه على المنتجات الأجنبية في كلّ المجالات ونغفل تطوير صناعاتنا وعلومنا التي تناسب احتياجاتنا كان عدوّنا المحتلّ لأرضنا يطوّر من صناعاته وأسلحته المختلفة من طائرات وصواريخ ودبابات وتكنولوجيا حتّى سيطر على أجوائنا سيطرة تامّة وتفوّق علينا بسلاحه الجوّي الذي كان وما زال سبباً رئيسياً في بطشه بنا وعدم قدرتنا على التصدّي له. ولذا لا بدّ لنا من توطين أنفسنا على الاعتماد على قدراتنا وطاقاتنا ومواردنا وحماسة شبابنا ونباهة عقول أبنائنا والتوجّه إلى إنتاج ما نحتاج إليه في كلّ مجالات الحياة.
هذه دروس قليلة من دروس كثيرة لا تحصى ينبغي على أصحاب الشأن والقرار وأصحاب الفكر والرأي أن يتوقفوا عندها بعمق وأن يأخذوها في الاعتبار وهم يعيدون النظر في حاضر الأمّة ويحاولون رسم صورة جديدة لمستقبلها.
Salahjarrar@hotmail.com