في ظل تصاعد التوترات الإقليمية واستمرار التهديدات المتبادلة بين إيران و"دولة الاحتلال"، يبدو أن طهران تدرك تماماً أن الدخول في حرب شاملة ليس من مصلحتها، على الأقل في الوقت الراهن. لكن الهجوم الصاروخي الأخير الذي نفذته ضد "الاحتلال" ليس مجرد رد فعل عسكري، بل هو خطوة محسوبة لتعزيز صورتها في نظر المقاومة ومحورها في المنطقة.
إيران، التي لطالما استخدمت "أذرعها" الإقليمية مثل حزب الله وحماس، بالإضافة إلى حركة أنصار الله (الحوثيين) والحشد الشعبي في العراق، لتعزيز نفوذها من دون التورط المباشر في حرب شاملة على أراضيها، اختارت هذه المرة الرد بشكل مدروس. استهداف "دولة الاحتلال" يأتي في وقت حساس، بعد اغتيال قيادات بارزة في المقاومة مثل حسن نصر الله وإسماعيل هنية. من خلال هذا الرد، أرادت طهران أن ترسل رسالة واضحة لحلفائها قبل أعدائها بأنها لا تزال قوة حاضرة وقادرة على الانتقام.
هذا التحرك يعكس قاعدة استراتيجية لإيران تتمثل في "الدفاع عن إيران خارج حدودها". بعد حرب العراق، أصبح من الواضح أن طهران تفضل إدارة صراعاتها من خلال وكلائها في المنطقة بدلاً من التورط المباشر، مما يضمن لها الحفاظ على قوتها دون تكبد خسائر فادحة.
لكن الهدف الحقيقي وراء هذه الضربات لا يقتصر على الانتقام فقط، بل هو مرتبط بمسعى إيران لتعزيز مكاسبها الاستراتيجية والتوسعية في المنطقة. زيارة الرئيس الإيراني إلى قطر بعد الهجوم، تحمل دلالات واضحة على أن طهران تسعى لتعزيز التأييد الدولي والإقليمي، خاصة من الدول التي تتعاطف مع المقاومة الفلسطينية. إيران تدرك أن توازن القوى في المنطقة يتطلب منها إظهار قوتها وحضورها الفعلي، دون الانجرار إلى حرب شاملة قد تكون مكلفة لها داخلياً وخارجياً.
تستفيد إيران أيضاً من هذه الضربات في تعزيز فكرها التوسعي ونفوذها العقائدي. من خلال هذه التحركات، تؤكد طهران لحلفائها بأنها تقف إلى جانبهم في لحظات الحسم، مما يساعدها في كسب المزيد من التأييد الشعبي والسياسي في المنطقة. هذه المقاربة تعكس إدراكًا إيرانيًا لأهمية البقاء بعيدًا عن أي مواجهة مباشرة مع "إسرائيل"، حيث تسعى طهران إلى إدارة الصراع من خلال وكلائها في المنطقة، وهو ما يعزز من موقعها الإقليمي دون أن تتكبد خسائر فادحة في الداخل.
مع تصاعد الأحداث في المنطقة، تبرز أسئلة استراتيجية حول دوافع إيران خلف الهجوم الصاروخي الأخير على "دولة الاحتلال". في الوقت الذي أعلنت فيه إيران أن هذا الهجوم يأتي كنوع من الثأر لاغتيال حسن نصر الله وإسماعيل هنية، يبدو أن هذه التصريحات تحمل في طياتها دلالات أعمق تتعلق بمكانتها الإقليمية واستراتيجياتها. من المهم أيضاً الإشارة إلى أن حسن نصر الله كان برفقة نائب رئيس الحرس الثوري الإيراني عند اغتياله، مما يزيد من دلالات التصعيد. حيث أرسلت رسائل الى جبهتها الداخلية انها قادرة بالرد على الانتهاكات "الإسرائيلية" واختراق سيادتها خصوصا بعد اغتيال إسماعيل هنية على ارضها.
هذا التوجه الإيراني يفتح باب التساؤلات حول إمكانية عدم انخراطها بشكل أكبر في ملف الحرب اللبنانية الإسرائيلية. هل يعني هذا أن طهران ستترك حزب الله في مواجهة وحده ضد "دولة الاحتلال"، أم أنها تخطط لاستراتيجية مدروسة تعتمد على دعم غير مباشر في إطار الصراع؟ بينما تعلن إيران أنها قادرة على استهداف "إسرائيل"، فإنها تسعى أيضاً لاستغلال هذه الضربات لأغراض سياسية، مما يعكس إدراكاً لحساسيات الصراع الإقليمي.
تبدو إيران حذرة في تقدير الموقف. إذا ما أدت الظروف إلى حالة من الضعف لحزب الله، هل ستستمر في اتخاذ هذا النوع من الردود العسكرية، أم ستتجه نحو استراتيجيات أخرى؟ في حال نجحت "دولة الاحتلال" في قطع سبل الإمداد بين حزب الله وإيران، هل يمكن أن نشهد ضربة من طهران كاستجابة لهذه التطورات؟ هذه التساؤلات تعكس إدراكاً لطبيعة الصراع الذي تدير طهران خيوطه بعناية، حيث تسعى للحفاظ على نفوذها دون أن تتورط بشكل مباشر في معارك مكلفة.
علاوة على ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن "دولة الاحتلال" تعمل على تقليم أظافر إيران من خلال استهداف وكلائها، وتضغط من أجل تحقيق تسوية سياسية في الشرق الأوسط تقلل من نفوذ طهران، خاصة في ظل تصاعد التوترات حول ملف المفاعل النووي الإيراني. كما أن أي رد عسكري من إيران على الانتهاكات الإسرائيلية يكون متفقاً عليه عادةً مع اللاعبين الرئيسيين في المجتمع الدولي مثل الولايات المتحدة وروسيا، مما يعكس رغبتها في الحفاظ على توازن قوى دقيق.
تسعى إيران إلى موقف عقلاني في هذه الأوقات، خصوصاً بعد تصريح الرئيس الإيراني في قطر بأنهم لا يرغبون في خوض حرب، بل يسعون لعلاقات أفضل مع الغرب. هذا الموقف يأتي من إدراك أن أي تدخل عسكري مباشر قد يتسبب في خسائر فادحة ويدمر ما بنته إيران سياسياً وعسكرياً بعد حرب الخليج الثانية وسقوط صدام حسين.
وفي الختام، يتعين علينا قراءة هذه الأحداث من خلف السطور. هل ستكتفي إيران بالتضامن مع حلفائها في الوقت الراهن، أم أنها ستعيد التفكير في استراتيجيتها إذا ما استدعت الظروف ذلك؟ كيف ستؤثر التغيرات في موازين القوى على قراراتها المستقبلية، وما هي حدود استراتيجياتها للدفاع عن نفوذها في المنطقة؟ هذه الأسئلة تتركنا في حالة من التفكير العميق حول المستقبل المجهول للصراع الإقليمي.