تبدو إسرائيل هذه الأيام منخرطة فيما تُسميه حرباً "وجودية" ضد أعدائها، فبعد أن اتضح تماماً أنها لن تحقق أهدافها المُعلنة في قطاع غزة (القضاء على حماس، واستعادة الأسرى، وضمان ألاّ يشكل القطاع خطراً مستقبلياً عليها) توجّهت إلى الجبهة الشمالية لمنازلة غريمها التاريخي "حزب الله"، وقد انتشت قياداتها وعلى رأسهم نتنياهو بالتدمير الذي أحدثوه في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، وتكللت جهودهم باغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله ومعه عدد غير قليل من أهم قيادات الحزب وبالذات العسكريين منهم.
ولكن…هل تستطيع إسرائيل أن تربح هذه الحرب فعلاً؟ أغلب الظن أنها يمكن أن تحقق بعض الانجازات "التكتيكية" ولكنها لن تخرج منتصرة بالكامل وذلك بالنظر إلى الظروف والمتغيرات الموضوعية الآتية:
أولاً: على جبهه الجنوب حيث لا تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت فقد دمرت معظم البنية التحتية (أكثر من 70% من المساكن) وقتلت أكثر من (40,000) وجرحت أكثر من (90,000) فلسطيني وهي عملياً تحتل القطاع، ولكن معضلتها تكمن برغم ذلك في أنها -وفضلاً عن عدم تحقيق أهدافها المعلنة- سوف تتعرض إلى حرب استنزاف طويلة من قبل الفصائل الفلسطينية، وسوف تترّدى صورتها أمام العالم بشكل متزايد، والأخطر من ذلك أنها حتى الآن لم تستطع إيجاد بديل عن حماس لحكم القطاع، فلا السلطة الوطنية الفلسطينية قادرة (وهي مرفوضة إسرائيلياً)، ولا الدول العربية راغبة في المشاركة في ضوء تعنت إسرائيل، ولا الدول الأجنبية كذلك والتي يَشترط معظمها البدء بتطبيق فكرة "حل الدولتين" في حالة المشاركة. باختصار لا نبالغ إذا قلنا بأن إسرائيل عالقة في قطاع غزة فجميع خياراتها في غير صالحها ولعلّ الوضع في الضفة الغربية ليس أقل صعوبة على إسرائيل من قطاع غزة، فقد قتلت أكثر من (600) واعتقلت أكثر من (10000) فلسطيني، كما دمرت البنية التحتية في بعض المدن والمخيمات ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً أكثر إزاء أكثر من (3) ملايين مواطن يرفضون مغادرة وطنهم، وهم مصممون في ذات الوقت على نيل حقوقهم (وبخاصة حق تقرير المصير) عاجلاً أو أجلاً.
ثانياً: على جبهة الشمال -وبغض النظر عن نجاح إسرائيل في اغتيال الأمين العام لحزب الله وعدد غير قليل من القادة العسكريين والمدنيين في الحزب- فإنّ إسرائيل لم تستطع القضاء عليه حيث أنه يستند إلى حاضنة اجتماعية كبيرة وملتزمة، ويتوفر على أسلحة فتاكة، وشبه جيش مدرب جيداً (وبخاصه قوة الرضوان على الحدود)، وفوق ذلك طُرق إمداد من الصعب إغلاقها وتأتي من إيران وعبر العراق وسوريا. إن إسرائيل قد تنجح في دفع حزب الله إلى ما وراء الليطاني مستثمرةً ضرباتها المؤثرة والمتوالية له ولكنّها بالقطع لن تنجح في القضاء على الحزب الذي مضى على تأسيسه أكثر من (40) سنة، وله امتداداته السياسية، والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع اللبناني، (مع أنّ هناك عدد غير قليل من اللبنانيين الذين لا يتفقون مع طروحات حزب الله وارتباطه مع إيران)، ولعلّ مما يزيد من اشكالية حزب الله بالنسبة لإسرائيل أنها لا تستطيع أن تقدم على اجتياح بري لجنوب لبنان بدون أن تدفع ثمناً كبيراً لدخولها وذلك في ضوء حرب (2006) التي خاضتها مع حزب الله لمدة (34) يوماً ولم تخرج في نهايتها سوى بقرار (1701) الذي لم يُطبق فعلياً لا من الحزب ولا من إسرائيل.
ثالثاً: على جبهة الإقليم حيث تتمنى إسرائيل أن تجر الولايات المتحدة إلى حرب تمكنها بالتعاون مع الحليف الأمريكي من تدمير البرنامج النووي الإيراني، ولعلّ الضربة الإيرانية التي تلقتها إسرائيل بالأمس تعزز لديها هذا الأمل، ولكن الواقع هو أنّ الولايات المتحدة لا ترغب في حدوث حرب مع إيران في هذه السنة الانتخابية، ولعلّ هذا لا يلغي حقيقة أنّ إسرائيل سوف ترد بقوّة على الهجوم الإيراني، ولكن هذا لن يمكنها في المحصلة من تحقيق أهدافها التي تحدث عنها نتنياهو بتبجح واستعلائية وهي إعادة ترتيب أوضاع الشرق الأوسط الذي تتسيّد فيه إسرائيل.
إنّ فرص نجاح إسرائيل فيما تسميه حربها "الوجودية" ضد أعدائها غير متوافرة موضوعياً وهي كأية قوة استعمارية تؤمن بتفوقها ومدججة بالسلاح وبالدعم الغربي اللامحدود تؤمن بأنها تستطيع أن تتعامى عن حقوق الشعوب، وعن الشرعية الدولية، وعن حقوق الإنسان غير مدركةٍ أنّ للقوة حدوداً مهما كانت ولها في الامبراطوريات والقوى الاستعمارية التي سبقتها خير شاهدٍ ودليل.