في بداية العام الماضي التحقت باحدى الوزارات الكبرى في بلدنا الحبيب بعد ان عملت لفترة تزيد عن ال 12 عاما في القطاع الخاص بمهمة تختص بالابداع والابتكار لغايات التسويق.
وظيفتي الحكومية الجديدة كانت غاية في الجمود بطبيعتها لكونها وظيفة فنية صرفة بلا اي مدخل او مخرج يؤدي لاي ابداع او ابتكار ,ولكن انعكاسا لخبرتي في العمل الابداعي بدأت بعمل تغييرات طفيفة على صعيد الفضاء المكتبي لأقوم حينا بإعادة ترتيب لملفات ورقية معينة واحاول حينا تغيير بعض الاجراءات البسيطة بنية تحسين بيئة العمل ضمن صلاحياتي المحدودة والتي اجتهدت فيها قدر الامكان فكان من حظي الاصابة في بعضها والخطا في بعضها الاخر .
لاحقا لذلك ,كانت ردة الفعل من قبل من لهم علاقة بعملي تتلخص بالاهمال و الاستخفاف والسلبية و الاستغراب امام اي مبادرة مهما كان حجمها او نتيجتها سواءا كان ذلك من قبل الادارات الوسطى التي اتبع لها او حتى من قبل الزملاء .
ولكن قاموسي الشخصي غير معرف على مصطلح "الاستسلام" , فهذا الطبع فطري في نفسي و تم تقويته و صقله من خلال العمل في القطاع الخاص ذو التنافسية العالية والفاعلية القصوى.
فافكاري الابداعية لا تبقى عادة حبيسة دماغي بل اترجمها على ارض الواقع اما بالتنفيذ المباشر او بالسعي لتطبيقها ، و عليه فقد سارت الى مخيلتي بداية هذا العام بوادر فكرة ابداعية فسعيت قدر المستطاع ان تجد سبيلها من بواطن العقل والتفكير الى ميدان التنفيذ، هذه الفكرة تمحورت حول تطويع الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة احدى الخدمات التي لطالما عانى بعض المواطنين من انقطاعها في مراكز خدمية معينة او من التأخر بأدائها بسبب عدم وجود الكادر المؤهل لادائها.
فقد تلخصت الفكرة بادماج الذكاء الاصطناعي لتسريع و تحسين الخدمة المقدمة و تقليل العبئ المادي عن كاهل متلقي الخدمة في حال انقطاعها. و عندئذ بدأت بالسؤال عن نافذة تعنى بطرح هكذا افكار فلم اجد مطلقا انذاك اي نافذه حكومية فعالة تختص بهذا الشأن وانما بعض الحواضن الابداعية التابعة للقطاع الخاص و شركات الاتصالات تحديدا.
هنا , لم استسلم و واصلت البحث عن منفذ لعل هذه الفكرة تخرج الى النور الى ان اشار علي احد الزملاء بارسال الفكرة لامين عام الوزارة التي اتبع لها !!! و هنا سألته هل يمكن لامين عام وزارة كبرى هي من ضمن اكبر وزارتين على مستوى الوطن ان يلتفت لرسالة موظف في ادنى السلم الاداري؟؟ فأجاب : إن هذه الامين العام ستتواصل معك بشكل مؤكد في حال وجدت قيمة مضافة للفكرة المطروحة.
و بالفعل فقد كان , فقمت بإرسال مضمون الفكرة للامين العام والتي كان لاسمها نصيب في طبيعتها وادارتها بل و لها نصيب من اسم هذا المقال ،و خلال يومين فقط تلقيت اتصالا من مكتب الامين العامة يدعوني للقاء عطوفتها، هذا الحدث جعلني اتأكد من الطبيعة الفريدة التي تتحلى بها .
وبالفعل بعد عدة ايام تم تحديد موعد لمقابلة الامين العام و هنا لمست فرادة هذا المسؤول فقد قامت بتقديم موعدي على كل المواعيد المقررة ذلك اليوم وما ان جلست حتى اطرقت لي منصتة بإهتمام بالغ و انتباه مدونة ما تراه مهما و طارحة لاسئلة متعددة تدل على فهمه التام لما شرحت.
وانتهى الاجتماع بأن ابدت اعجابها بالفكرة و نيتها البدأ بتقييمها و دراستها و تنفيذها من خلال لجنة يتم تشكيلها فورا، و بالفعل تم تشكيل لجنة ضمت مجموعة من المدراء (القيادات الوسطى) المعنيين بالفكرة بالاضافة لاستاذ جامعي متخصص بالجانب التقني لهذا المشروع... و هنا بدأت المعاناة!!!!.
تم تحديد موعد لعقد اللجنة المعنية و عليه بدأت بالاعداد الجاد للاطروحة التي سأقدمها من خلال اعداد شرح تقديمي يفصل اهم النقاط التي تلخص الفكرة واليات تنفيذها .
في يوم الاجتماع , وصلت قبل الوقت المحدد للاجتماع ببضع دقائق و وصل معي استاذ جامعي من خارج الوزارة , دخلنا قاعة الاجتماع والتي كانت جدرانها ومقاعدها تنتظر من يؤنس وحدتها من الاعضاء ، فظننا باننا مخطئين بالمكان ولكن منسقة اللجنة اشارت الى ان هذا هو المكان الصحيح.
طال انتظارنا لملاء مقاعد اللجنة من قبل "هذه القيادات الوسطى" لاكثر من 30 دقيقة حتى اكتمل العدد و بدأت بتقديم الشرح التقديمي و هنا كانت المفاجأة . فكان اعتقادي باني سأجد الحد الادنى من الاهتمام بالفكرة والذي لمسته عند الامين العام ، و اعتقدت ايضا انه بعيد انتهائي من تقديم الفكرة سيبدأ الاعضاء بالنقد البناء للفكرة بنية الوصول بها للمستوى المطلوب يقربها من التنفيذ و لكن تجري اللجان بما لا تشتهي السفن .
ما ان بدأ الاجتماع رجعت بي ذاكرتي الى ايامي الاولى في دوامي الحكومي وكمية الاحباط التي القيت على كاهلي والانتقادات لمجرد مباداراتي، حيث بدأ احد اعضاء اللجنة بالمقاطعة بشكل فج يرقى لمستوى التقليل اللا محدود من قيمة فكرتي المعروضة امامهم والحديث السلبي المطول عن عدم جدوى هذا الاجتماع اصلا و خلو الفكرة من اي قيمة . كل هذا كان على الرغم من انه لم يكمل الاستماع لشريحة واحدة اواثنتين من العرض التقديمي. ولكنني كما اسلفت لا اعترف بالاستسلام فاكملت شرحي كما يجب ان يكون وهنا لحق بصاحبنا لمحبط محبط اخر فبدأ التسخيف لحد وصل للتهديد الوظيفي المباشر في احد مسلسلات النقاش.
في هذه المرحلة ادركت ان الموضوع لن ينجح من خلال هذه اللجنة وبانني اواجه تيار يرفض مجرد حديثي عن فكرتي, فاختصرت على نفسي معاناة الحديث والدفاع والاقناع و ارحتهم من عناء البقاء في الاجتماع.
بُعيد ذلك الاجتماع (الكارثي) بعدة ايام تشاء الاقدار ان يتم طرح مسابقة للابتكار في تلك الوزارة و عليه قمت بتقديم فكرتي و التي لم تلبث ان تأهلت لتكون من ضمن افضل خمسة افكار مختاره و لاحقا فازت بالمركز الاول بهذه المسابقة والتي على اثرها استلمت جائزة المسابقة من نفس يد الامين العام التي اخذت بيدي منذ البداية.
من خلال هذه التجربة القصيرة والمكثفة استطعت تكوين قناعة بأن من اهم ما يؤخر مؤسساتنا العامة و وزاراتنا هو سوء اداء واختيارالقيادات الادارية الوسطى و التي تمتاز بمقدار عالي من السلبية والرتابة والخوف من كل تحسين او تغيير.
القيادات الوسطى هذه تقف حاجز منيع بين ما قد يجتهده الموظف العادي و بين القيادات العليا والتي قد تحمل قدرا كبيرا من الايجابية والرقي بالتعامل مع الافكار المطروحة بل و تتعطش لدعمها.
القيادات الوسطى ....القيادات الوسطى ...القيادات الوسطى .. هي حجر الزاوية في تقدم مؤسساتنا تحسين ادائها و تعزيز الجودة, وهي ايضا سر تأخر الكثير من مؤسساتنا الكبرى وما لم يتم اخضاع هذه القيادات للتقييم والفلترة من خلال مؤشرات تعنى بالابداع والابتكار و التحسين ستبقى هذه المناصب والمسميات عبارة عن ((إدارات)) لواقع رتيب لا ((قيادات)) تسعى لتنفيذ رؤية تلك المؤسسات والوزارات بالتحسين المستمر والابتكار.