لعلّه لا جدال في أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأقوى والأغنى في عالم اليوم ولذا - وبغض النظر عن موافقتنا او عدم موافقتنا على السياسات الأميركية - فإن من المفيد لنا أن نفهم طبيعة النظام السياسي الأميركي وديناميكية عمله لأنها تؤثر علينا في المحصلة شئنا أم أبينا.
ولعلّ من مفاتيح فهم هذا النظام وآليات عمله طبيعة الانتخابات الأميركية التي تفرز "الرئيس" ومجلسي الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) وهو ما يجري الآن في الولايات المتحدة ويشغل العالم.
إنّ المتأمل في مجريات الانتخابات الأميركية يلاحظ ما يلي:
أولاً: طول مدة الترشّح فالراغب في الترشح للرئاسة يمضي أشهراً في التجول على الولايات والتنافس مع زملائه من نفس الحزب حتى يظفر بالترشيح الرسمي من قبل مؤتمر الحزب كما حصل أخيراً بالنسبة لترامب الذي رشحه "المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري"، وبالنسبة "لهاريس" الذي رشحها "المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي".
ثانياً: ضرورة الترشح من خلال الحزب، وفيما يتعلق بالولايات المتحدة يهمين الحزب الجمهوري (تأسس 1845) والحزب الديمقراطي (تأسس 1828) على الحياة الحزبية الأميركية منذ ما يزيد على مائتي سنة.
صحيح أن "المستقلين" يستطيعون أن يترشحوا (كما حصل لكنيدي في هذه الانتخابات) ولكنهم يفتقرون في الواقع إلى أية فرصة جدية بالفوز، ولذا فإنهم غالباً ما ينسحبون لاحقاً أو يعلنون انضمامهم إلى أحد مرشحي الحزبيين الكبيرين (الجمهوري والديمقراطي) كما حصل بالنسبة لكنيدي الذي انضم إلى مرشح الحزب الجمهوري ترامب.
ثالثاً: ضرورة أن تشمل بطاقة الترشح اسم "الرئيس" و"نائب الرئيس" وهذا ينطوي على مفهوم الاستمرارية، فالمواطن ينتخب الرئيس ومعه نائب الرئيس بحيث إذا حدث أيّ طارئ للرئيس فإنه يمكن لنائب الرئيس أن يشغل الموقع كما حصل عندما استلم "جونسون" الرئاسة بعد اغتيال "كنيدي"، وعندما استلم "فورد" الرئاسة بعد استقالة "نيكسون".
رابعاً: دور "المال"، و"اللوبيّات" (Lobbies) في الانتخابات الأميركية فجمع الأموال للحملات الانتخابية أمر مشروع ومقنن في الانتخابات الأميركية، ويقاس نجاح المرشحين أحياناً بقدرتهم على جمع التبرعات لصالحهم ويعبر - من وجهة النظر الأميركية - دلالة على أهمية الطروحات التي يقدمها المرشح، كما أن اللوبيّات أو جماعات الضغط تمارس دوراً مهماً في دعم مرشح دون غيره وذلك من منطلق أن هذه الجماعات تعبّر عن مصالح شرائح اجتماعية معينة لها الحق في عرض قضاياها ودفعها إلى دائرة الضوء.
خامساً: وضوح الهوية الحزبية لمعظم الولايات الأميركية فكاليفورنيا مثلاً ولاية "ديموقراطية" أيّ تنتخب في العادة وبأغلبية مندوبيها مرشح الحزب الديموقراطي، وولاية تكساس ولاية "جمهورية" أيّ تنتخب في العادة وبأغلبية مندوبيها مرشح الحزب الجمهوري، غير أنه تُوجد أيضاً ما يُسمى بالولايات المتأرجحة (Swing States) أيّ تلك الولايات التي ليس لها هوية حزبية واضحة ولذا يتنافس المرشحون على الفوز بها لحسم انتخابات الرئاسة، وهذه الولايات هي: أريزونا، فلوريدا، نيفادا، نيبراسكا، نيوهامشر، كارولينا الشمالية، ميتشغان، ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتأرجحة كانت هي السبب الرئيسي في فوز الرئيس الحالي "بايدن" على الرئيس الأمريكي السابق "ترامب" في انتخابات 2020.
سادساً: انتخاب الرئيس الأميركي من خلال ما يُسمى بالمجمع الانتخابي (Electoral College) أيّ بأصوات مندوبي الولايات وليس من خلال أصوات الناخبين، والواقع هو أن كل ولاية ترسل مندوبيها المُنتخبين إلى المُجمّع الانتخابي وهم الذين مع زملائهم ينتخبون الرئيس ولا يُحتكّم إلى الأصوات الشعبية التي نالها كل مرشح. صحيح أن المندوبين يجب أن يعبروا عن القواعد الشعبية لناخبيهم ولكن الواقع هو أنهم أحرار في انتخاب من يريدون عندما يلتئم المُجمّع الانتخابي، ولنتذكر أن "هيلاري كلينتون" حصلت على ما يزيد عن مليوني صوت أكثر مما حصل عليه منافسها ترامب في انتخابات 2016 ولكن ترامب فاز بأصوات أكثر من المندوبين في المجمع الانتخابي!
سابعاً: توالي الانتخابات الأمريكية كل أربع سنوات مع عدم جواز بقاء الرئيس في سدة الرئاسة أكثر من ثماني سنوات، وهذا يدل على رغبة الشعب الأميركي في تجديد قياداته لما في ذلك من ضخ دماء جديدة في النظام السياسي والحيلولة دون نشوء مراكز نفوذ تضر بالنظام.
إن الانتخابات الأميركية: الرئاسية والتشريعية كلها هامة جداً في بلورة النظام السياسي الأمريكي فهي تفرز الرئيس الذي يُعتبر أقوى رئيس تنفيذي في العالم بما له من صلاحيات يخوله إياها الدستور الأميركي، وهي التي تفرز الكونغرس بمجلسيه وهو صاحب دور كبير في النظام السياسي الأمريكي وبالذات من حيث أنه يسيطر على "تخصيص الأموال"، وهو صاحب الحق في المصادقة على الترشيحات الهامة التي يقترحها الرئيس كترشيح القضاة الجدد لمجلس القضاء الأعلى (Supreme Court) والوزراء وغيرهم، الأمر الذي يعكس حقيقة قيام النظام السياسي الأميركي على توازن السلطات (Cheques and balances).
وأخيراً فإنّ الانتخابات الأمريكية مثيرة حقاً بما تشتمل عليه من إجراءات، وسياسات، وبما تتمخض عنه من قيادات تهم العالم أجمع، لذا تظل جديرة بالنظر والتأمل.