استكمالاً لمقالة أمس/الاثنين, التي أضأنا فيها على بعض مضامين المقالة المُطولة التي كتبتها كوندليزا رايس التي شغلتْ منصب وزيرة الخارجية الأميركية (2005ــ 2009)، ومستشارة الأمن القومي قبل ذلك (2001- 2005). وتشغل الآن مديرة لـِ«مؤسسة هوفر» بجامعة «ستانفورد». زعمت فيها/ رايس أن «العالم» ما يزال بحاجة إلى حضور «فاعل» لواشنطن. لافتة إلى أن «التيار الانعزالي الأميركي, يُهدّد النظام العالمي الحُرّ», فإن القراءة المُعمقة لمقالتها تزيد من الثقة, بأن رايس لم تُغادر مُربع المُحافظين الجُدد, على الرغم مما حَفَلت به حقبتهم الدموية التي استمرت ثماني سنوات, من عسكرة خطيرة للعلاقات الدولية, وشنِّ الحروب العدوانية, ودائماً في تعميم «مبدأ بوش الابن», الذي يقول: «مَن ليس معنا فهو ضدنا». (بافتراض أنه من بنات أفكاره. فيما يعلم الجميع ان الثلاثي.. تشيني ورامسفيلد ورايس, هم مَن صاغوا هذا المبدأ الإمبريالي المُتغطرس).
نقول استكمالاً لذلك, فإن مقالة رايس صاحبة ومُنظّرِة مشروع «الشرق الأوسط الجديد», الذي أشهرته بـِ«قوة» وثقة مُستفِزّة, غداة الحرب الوحشية, التي شنها العدو الصهيوني في تموز/2006 على لبنان الشقيق, والتي انتهت بهزيمة نكراء لحلف الشر الصهيو أميركي. وهي دائما أحد «صقور» حقبة المُحافظين الجُدد السوداء, الذين أحكموا سيطرتهم على المشهد الدولي, خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/2001, وهي خاصة/ رايس, التي شاركتْ ديك تشيني/نائب بوش الابن, ودونالد رامسفيلد/ وزير الحرب, في إحكام قبضتهم على إدارة وقرارات أكثر الرؤساء الأميركيين, جهلاً بالسياسة وفقرا في رجاحة الفكر, ونقصد جورج دبليو بوش (ربما يُقارِبه دونالد ترمب في مساره ومسيرته بهذا الشكل او ذاك). وقد عادت الآن الى الأضواء, عبر مقالة مُطولة في فصلية «فورين أفيرز» الأميركية/عدد أيلول وتشرين الأول/2024, لا تخرج عن إطار المزاعم الأميركية المعروفة في شأن «الاستثنائية الأميركية» التي روّجت لها الدوائر الأميركية, بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, والتي إزدادت سطوة الدعاية لها خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وسيادة السردية النيوليبرالية, عن نهاية التاريخ.
لهذا لم تخرج رايس عن هذا الخط الاستعلائي, القائم على (تفوّق العِرق الأبيض), على النحو الذي كرّره أكثر من رئيس أميركي بعد عام/1991, بما هو العام الذي «اختفى» فيه الاتحاد السوفياتي من الخريطة الجيوسياسية للعالم. وهوــ كـ«مثال» ما قاله مُتبجحاً الرئيس الأميركي الصهيوني/ بايدن زاعماً ان العالمَ (سيفقِد «قائِده» إذا غادرتْ الولايات المتحدة المسرح العالمي), وأضاف مُتسائلا في غطرسة: إذا غادرتْ الولايات المتحدة المسرح العالمي، فـَ«مَن سيُصبح زعيمَ العالم»؟. فضلاً عن تكراره الأكذوبة الأميركية المؤسطرة التي تقول إن الجنود الأميركيين «أنقذوا العالم وحرّروا أوروبا», خلال الحرب العالمية الثانية مُدّعياً أنهم «دافعوا عن الاستقلال وهزموا الفاشية». مُضيفاً في إنكار لحقائق التاريخ والجغرافيا أنه قد مرّ «80 » عاماً على (هبوط أبناء الجيل الأعظم، على شواطئ «نورماندي» وتحريرهم «القارة الأوروبية» وإنقاذهم العالم), وفق أقواله «المزّيفة بالطبع».. حرفياً.
كيف تنظر «رايس» إلى الصين؟
تقول رايس: من الصعب التعبير عن مدى «الصدمة» والشعور بـ«الخيانة» اللذيْن انتابا قادة الولايات المتحدة، فلطالما شكلت السياسة الأميركية تجاه الصين «نوعاً من التجارب», راهنَ فيها مؤيدو المشاركة الاقتصادية, على أنها ستؤدي إلى «إصلاح سياسي»، وعلى مدى عقود تابعت رايس, من الزمان, بدا أن الفوائد المُترتبة على هذا الرهان تفوق السلبيات، وعلى رغم التحديات المُتعلقة بحماية المُلكية الفكرية والوصول إلى السوق (وهي مشكلات كانت موجودة بالفعل)، فإن النمو المحلي الصيني غذّى النمو الاقتصادي الدولي، فقد كانت الصين «سوقاً جذابة ووجهة استثمارية جيدة ومورداً قيماً للعمالة المنخفضة الكلفة»، وامتدت سلاسل التوريد من الصين إلى جميع أنحاء العالم، وبحلول الوقت الذي انضمت فيه الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001, زاد إجمال حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين بنحو خمسة أضعاف عما كان عليه في العقد السابق، ليصل إلى 120 مليار دولار، وبدا «من المحتم أن الصين ستتغيّر داخلياً, لأن» التحرير الاقتصادي والسيطرة السياسية لا يتوافقان في النهاية»، وقد وصل شي جينبينغ, إلى السلطة, وهو يتفق مع هذا المبدأ، ولكن (ليس بالطريقة التي كان «يأمل بها الغرب»، فبدلاً من التحرير الاقتصادي, اختار السيطرة السياسية).
ما يعني هنا (وهذا مهم) ان الصين «نجحتْ» بعدم الوقوع في» فخّ» السيناريو النيوليبرالي الذي رسمه الأميركيون لها.
«عودة الإمبراطورية الروسية»
تحت هذا العنوان الفرعي كتبت رايس: في المناظرة الرئاسية الأخيرة عام/2012، زعم الرئيس/أوباما أن خصمه/ميت رومني كان «يبالغ» في تقدير الخطر الذي تشكله روسيا، مشيراً إلى أن روسيا «لم تعد تمثل تهديداً جيوسياسياً»، ومع ضم شبه جزيرة القرم عام/2014 أضافت رايس أصبحَ من الواضح أن الرئيس الروسي/بوتين يرى الأمور بصورة مُختلفة، ثم أدت الخطوة التالية المُتمثلة في غزو أوكرانيا عام/,2022 إلى وضع طموحات بوتين لـ«إحياء الإمبراطورية الروسية» في مواجهة مباشرة مع الخطوط الحُمر المُحددة, في المادة الخامسة من معاهدة تأسيس/حلف الناتو, التي تنص على أن «الهجوم على أحد أعضاء الحلف يُعد هجوماً على جميع الأعضاء»، وفي وقت باكر من الحرب كان حلف الـ«ناتو» قلقاً, من أن موسكو قد تُهاجم خطوط الإمداد في بولندا ورومانيا، وهما عضوان في الحلف، وحتى الآن تابعَتْ رايس, لم يُظهر بوتين أية رغبة في تفعيل المادة الخامسة، لكن البحر الأسود (الذي كان القياصرة يعتبرونه بحيرة روسية) أصبح مرة أخرى مصدراً للصراع والتوتر.
ثمَّة الكثير مما يمكن مناقشته بل ودحضه, في مقالة رايس, لكن المساحة لا تتسع فـَ«عُذراً».