استكمالاً لمقالة أمس/الأحد, التي أكّدَ فيها لورانس كورب، مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق, أن الولايات المتحدة اتّخذت استراتيجية "الهيمنة الليبرالية" في تسعينيات القرن العشرين, بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. حيث كان المُتفائلون بشأن عالم "ما بعدَ" الاتحاد السوفياتي, يَفترضون "نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية الدائم". إذ كانت الولايات المتحدة قوة عظمى عالمية فريدة, ليس لها مُنافس عسكري جاد. ومع ذلك -استطردَ كورب- قلّل الرئيس الأسبق/كلينتون من "التركيز الوطني على الأمن والدفاع"، بما في ذلك الاستخبارات، والتي عادت لتُطاردنا بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/2001. ومع ذلك ـختمَ- غزَتْ الولايات المتحدة أفغانستان لإسقاط طالبان في عام/2001, وأسقطت نظام صدام حسين في العراق عام/2003. وأعلنت "الحرب العالمية" على الإرهاب، وتحوّل الصِراعان إلى "حربيْن أبديّتيْن" استمرّتا حتى العقد الثاني من القرن الحالي.
ماذا بعد "فشل" استراتيجية "الهيمنة الليبرالية" التي انتهجتها واشنطن؟.
يطرح كورب "أربع" استراتيجيّات قائلا: بصورة عامة، تشمل الخيارات المُتاحة للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة "الهيمنة الليبرالية" أو "التوازن الخارجي" أو "العولمة غير المحدودة" أو "المشاركة والتوسّع الانتقائي". وقد تم"استبعاد الإنعزالية" كخيار, لأن ذلك لن يكون مُمكناً في عالم اليوم, الذي يتسم بالترابط المُعقد والتشبّع الإعلامي، حتى لو اعتبره البعض مُرغوباً فيه.
ثم يُضيء أولاً على استراتيجية "التوازن الخارجي" لافتاً إلى أنها/"التوازن الخارجي" كانت استراتيجية "بديلة كبرى", يُفضلها بعض الأكاديميين ومُحلِّلي السياسات البارزين. ومن هذا المنظور ـ أضافَ ـ ينبغي للولايات المتحدة, أن تقتصر تدخلاتها العسكرية واسعة النطاق, "على التهديدات من جانب قوة مُعادية", بالهيمنة على منطقة أساسية, بطرق مُعادية للمصالح الحيوية للولايات المتحدة وحلفائها. ومن بين المنافسين الإقليميين - تابعَ كورب - روسيا الصاعدة في أوروبا، والصين الصاعدة في آسيا. وبموجب هذا النهج، سوف تسعى الولايات المتحدة "أولاً" إلى الاعتماد على حلفائها الإقليميين, لتولي زمام المبادرة إذا كانوا مُستعدين للقيام بذلك، على الرغم من أن الولايات المتحدة ـ يستطرِد ـ سوف تتحرّك بخلاف ذلك إذا تعرّضت مصالحنا الحيوية للتهديد.
أما في ما يتعلق بالاستراتيجية الثالثة, وهي "استراتيجية العولمة" غير المحدودة, فيقول: أنها "مُفضّلة من قِبل عدد كبير من الساسة, في مرحلة ما بعد الحداثة ومجتمع عالمي من الناشطين, وهي تُركز/الاستراتيجية, على "التحدّيات العابرة للحدود الوطنية", على حساب التنافسات الوطنية، وتدعو إلى نقل قضايا مثل تغيّر المناخ، والفقر، والهجرة، والتحضّر، والأوبئة ونزع السلاح, إلى "مقدمة أجندات السياسة الوطنية". ومن هذا المنظور - واصلَ كورب - يتحوّل التنافس من "الهيمنة إلى التعاون العلمي الدولي وحفظ السلام", تحت إشراف الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية.
ماذا عن الاسترتيجية الكبرى "الرابعة"؟.
هي "تتلخّص" كما يُصنفها كورب, في "المُشاركة الإنتقائية والتوسّع". وقد حظي هذا النهج بدعم "بعض" المسؤولين في إدارة كلينتون، إذ ركّز هؤلاء على "النمو الاقتصادي من خلال التعاون والاستثمار الدوليين". ورغم الإتفاق واسع النطاق بين الديمقراطيين والجمهوريين, في تسعينيات القرن العشرين, على أن "تحرير التجارة الحُرة, من شأنه أن يُشكل مَدّاً صاعداً يرفع كل القوارب"، فقد أصبحَ ـ تابعَ ـ من الواضح في نهاية المطاف, أن "بعض الدول سوف تستفيد بشكل مباشر أكثر من غيرها".
على ضوء ما سبق.. يمكن التساؤل عن الاستراتيجيات التي "انتهجها" الرئيس الحالي/ بايدن؟, وما الذي يُمكن أن تأخذ منها أو تتبعها كامالا هاريس إن فازت؟, بل خصوصاً أين ترمب من هذه الاستراتيجيات الكبرى/الأربع؟.
يشرح كورب: من بين هذه الاستراتيجيات الكبرى المُتنافِسة، تضمنت السياسات الخارجية والدفاعية لـ"إدارة بايدن", بعض العناصر من كل من الخيارات "الثلاثة الأولى". مُضيفاً لكن "التقدميِّين" في إدارة بايدن، بمن فيهم "العولميين"، اعترضوا على التكتيكات العسكرية الإسرائيلية, في الحرب ضد حماس في غزة. وفيما يتعلق بالصين، تم تقسيم سياسة بايدن بين الخيارين الأول والثاني: التأكيد على تعزيز الدفاع الأميركي, والاستعداد بشكل أكبر لمحاولة الاستيلاء العسكري الصيني على تايوان.
أما عن "هاريس" فيقول: من المُرجّح أن تعمل إدارة هاريس على توسيعها. وتُظهِر ميزانيات الدفاع المُتزايدة والدعم العسكري القوي, من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي, لأوكرانيا ضد الغزو الروسي, أن "الهيمنة الليبرالية" لا تزال "طموحاً بين الديمقراطيين وعدد من الجمهوريين" في واشنطن. ويقترب الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" في الشرق الأوسط, من تحقيق "التوازن الخارجي" ضد المُنافسين الإقليميين "الخطِرين". كما يعكس الإلتزام الأميركي "التاريخي" ــ يُتابِع ـ, بالدفاع عن "السيادة الإسرائيلية" ضد الأعداء الإقليميين.
وصلنا – أخيراً - إلى دونالد ترمب (إن حالفه الحظ)... يقول كورب: من غير الممكن معرفة ذلك في الوقت الحالي, لأن ترمب "يعتمد على قُدرته الشخصية" في التعامل, مع رؤساء الدول الآخرين, من أجل حلّ النزاعات الدولية. ويبدو - يُضيف ـ أن بعض تعليقاته تؤيد الخيار الأول وهو "الهيمنة الليبرالية". ومع ذلك، فهو يُقّدر أيضاً قدرته على جذب الزعماء المُعادين إلى "تحالفات أكثر مُلاءمة", من خلال "القِمم الكبرى والمشاركة الإنتقائية".