شاهدت أمس مقطعا, لفتى من غزة...ركض إلى الدبابة الإسرائيلية, ثم وضع العبوة الناسفة أسفلها, ونزع الفتيل..ثم عاد إلى موقعه.
ركض باتجاه الدبابة دون درع واق, ولم يكن يحمل سلاحا..حتى اللباس الذي كان يرتديه, رثا وبسيطا...ولكنه دمرها عن بكرة أبيها...ماذا نسمي هذا الفتى ؟..هل نسميه فارس القبيلة..هل نسميه (الذيب), هل نسميه الأسد...حتى الأسود لا تحتمل ما يحدث في غزة,..ماذا نسميه ؟ لا أعرف تاهت بي الأسامي..
هذا الفتى ليس من زمننا, هو من زمن خالد بن الوليد, هو من معدن مختلف, أنا لا أظنه ولد مثل بقية الأطفال في مستشفى, ثم أرضعوه حليب (نيدو)..وبعد ذلك ألبسوه زيا نظيفا والتحق بالصف الأول, أنا لا أظنه تعرض للحمى وهرب به الوالد إلى المستشفى...ثم أعطوه محلولا في الوريد, وبقيت الجدة تقرأ المعوذات على رأسه..حتى يشفى.
قل لي أيها الفتى من أي طينة جبلت عظامك ؟...أخبرونا عن بطولات الجيوش كلها..أخبرونا عن حصار (ليننغراد), لم أشاهد في كل الأفلام التي عرضت..رجلا مجردا من السلاح والحماية, ومنفراد يقاتل دبابة ويهزمها..أخبرونا عن (الكاميكازي).., أخبرونا عن الرايخ الثالث وجيوش هتلر الجرارة, لم أشاهد في جنوده أحدا يفعل ما فعلت..وهتلر انتحر بعد الهزيمة, أخبرونا في التاريخ عن (جنكيز خان وهولاكو)..هؤلاء قابلوا فرسانا وهزموهم..ولكنك صرعت دبابة, تلك المرة الأولى في حياتي التي أرى بها فتى من غزة ينحر دبابة ويسيل دمها...
لو كتبت بك الصبايا في تلمسان والجزائر, في طرابلس واللاذقية..في البصرة وصلالة, رسائل غزل بدمهن..لما وصل الغزل حد ذرة من رجولتك, أنا يقتلني سؤال واحد فقط وأعرف أنه ساذج وغبي..يا ترى لو تقدمت لطلب يد بنت عربية..ماذا سيكون رد والدها ورد أبناء العمومة ؟ أنت الوحيد الذي دفع المهر مقدما..والمهر لم يكن مالا ولا ذهبا..دفعت مهرها بأن قمت بذبح دبابة بمن فيها...
أحيانا ما أراه في غزة يتجاوز الأسطورة, يتجاوز واقعنا البشري...وهذا الفتى جعلني أضحك كثيرا وأبكي كثيرا, فأنا قرأت نصف الشعر العربي..ونصف قصص البطولة وقرأت عن عنترة والزير سالم...قرأت عن شمشون الجبار, عن الظاهر بيبرس...ولكنها المرة الأولى في حياتي والتي أشاهد فيها فتى من دون فرس ولا بندقية ولا ترس ولاسيف..فتى يقاتل منفردا, ويذبح دبابة كاملة بحديدها وحمولتها وتكلفتها...
إسرائيل مجنونة, لاتدري أنها تقاتل شعبا هزم الحديد..لا تدري أنها تقاتل شعبا...طور من التراب قذيفة, ومن الموت صنع الحياة..
أين أنت الان يا سيدي وإمامي وملهمي..في نفق ما, هل تأخذ غفوة استعداد لذبح دبابة أخرى ؟...هل تناولت رغيف خبز تيبس فقمت بسكب الماء عليه حتى يصبح طريا..هل حصلت على علبة (تونا) وأكلت ربعها ووزعت البقية على المقاتلين...لا أعرف ماذا تفعل الان, ولكني كلما أعدت مشهدك وأنت تنحر الدبابة..تذكرت نشيد الفلسطيني: ( اناديكم وأشد على أياديكم وأبوس الأرض من تحت نعالكم)...أنا لي أمنية في هذا العمر فقط يا سيدي, وهي أن أبوس الأرض التي ركضت عليها بنعالك القديم...فقط أريد أن اترجم القصيدة على أرض الواقع, فالأرض التي حملتك مباركة..والتيمم بترابها يجوز حتى وإن حضر الماء, أريد أن أقبل التراب الذي عبر منه نعلك يا فتى...