استَيقَظتُ اليَوم عَلى صَوتِ ضَجيجٍ مُرتَفِع نَظَرتُ مِن نافِذَة غُرفَتي فأَدرَكتُ أَنّ هُناك حَرباً مُشتَعِلَة بَينَ أَحَد جيراننا في العَمارة المُقابِلَة وَزوجَته ، ضَجيج وعِتاب ولكنّ الكَلام غَير مَفهوم .. لم أستطع فهم الكلام ولا قراءة الشفاه.
كَم أَتَمَنَّى أَن أَقول لَهم إِمّا أَن تُخفضوا صَوتَكم لِأَنَّه أَيقَظ كُلّ الجيران ؛وإِمّا أَن تَرفعوهُ قَليلاً لِنَفهَم القِصَّة !
المُهِم أَنّني استَيقَظتُ ولَم يَدفعني الفَضول لِمَعرِفَة سَبب المُشكِلَة لِأَنَّني أَخجَل مِن سُؤالِهم أَو التَّدخُّل فيما لا يَعنيني ، أَكمَلتُ ارتِدائي المَلابِس وغادَرتُ المَنزِل مُتَّجِهًا نَحوَ سَيّارَتي ... وشاهَدتُ حارس العمارة سيّد فسأَلتُه : شو قِصَّة جيراننا ، يا رَجُل صَحّوا كُلّ الحارَة .. ذبحوا بعض
- دكتور أَبو أَحمَد متخانق مع أُم أَحمد لأَنها بِدها جلايّة وأَبو أَحمَد رافِض يجيب جلايّة ، فَقامَت أُم أَحمَد تَركَت الجَلي يتراكَم وحَكتله إِذا إِنتَ منزعج إِجلِ إِنتَ أَو جيب صحون وكاسات بلاستيك أَو كرتون حَتّى ترميهم بَعد الاستخدام ومِن هون بَلَّشت المُشكلة ..
- طيب يعني ما عرفوا يتناقَشوا بموضوع جَلّايَة الصحون إلّا السَّاعَة السّابِعَة صَباحاً ، لَو عَلى التّسعَة لكان أَفضل !
- يا دكتور هبقى أَقولهم ده وأنقل لهم وِجهة نظرك
- سيّد استصبح وإِذا صار عِندك مَعلومات جديدة رِن عليّ الله يرضى عليك .. لا تنسى
رَكِبتُ سَيّارتي وأَنا أَقول معقول كُلّ هالخناقة والصّراخ بسبب الجَلّايَة ، ما أَعتَقِد !أَكيد هُناك تَراكُمات أخرى .أَدَرتُ السَّيّارَة وإِذ بِسَيّدَتي فَيروز تَقول ..
حبّيتَك تَ نسيت النّوم يا خوفي تنساني ..
حابسني برّات النّوم وتاركني سهرانة ..
أنا حبّيتك حبّيتك.. أنا حبّيتك حبّيتك ..
وسَرِحتُ بِتَفكيري يَعني مَعقول بَعد ما نغَنّي لبعض حبّيتك تَنسيت النّوم ييجي يَوم ونلم الجيران عَلى صوتنا مشان جَلّاية .. !!
أَسرَعتُ نَحوَ مَكتَبي حَتّى أُرَكِّز في الأُغنية التّي لَم أَستَطِع التَّركيز فيها لازدِحام الطَّريق وطَريقَة الآخرين المُتَهَوِّرَة في قِيادَة سَيّاراتِهِم ، وما إِن وَصَلتُ مَكتَبي وإِذ بِأَفنان تَقول لي .. دكتور اعذرني رَح أَتأَخّر عليك خمس دقائق لأَنّ جرّة الغاز فاضية وإِنتَ ما بتحِب أَغلي قهوتك عَلى غَلّاية الكَهرباء .. دقائق لَحد ما تيجي جَرّة الغاز
- لا يا أَفنان عندي اقتِراح ليش ما تولعي حَطَب وتِغلي القهوة عليه بتطلع أَزكى ويوجَد في المُختَبَر عندك حَطَب حَسَب عِلمي .. ونَظَرتُ نَحوَ أَفنان والتي كادَت أَن تَفتَرسني بِعيونها وكانَت نَظراتها أَكثَر حِدَّة مِن صَوت أَبو أَحمَد وأُم أَحمَد .. فقلت لا بَمزح معك يا بنت الحَلال ..
- إِنتَ بتُؤمُر دكتور .. الحمدالله هي الجَرَّة وِصلَت
- يَلّا أَفنان بسرعة بدّي أَرَكّز مع فَيروز وبِدون فِنجاني بفقد التَّركيز
وبالفِعل بسرعة كَبيرَة حَضَّرت أَفنان فِنجانَ قَهوَتي الذي تَقَدَّم نَحوي سَعيداً مُبتَسِماً مُقبِلاً عليّ وكأَنّي قادِم مِنَ السَّفَر.. نَظَرتُ لوجهه وتأَمَّلتُه جيّداً لَقَد كانَ يَحوي رأس قَلب صَغير في مُنتَصفِه سُرِرتُ جِدًّا لذلك
وأَدَرتُ أُغنية فَيروز ..
حبّيتَك تَ نسيت النّوم يا خوفي تنساني
وفَكّرت هَل مِن المُمكِن أَن يَطير النَّوم مِن عَين المُحِبّ ولِماذا لا يَنام ؟ أَوليس الحُبّ استِقرار وراحَة ؟!
لِماذا يَطير النَّوم مِن عَين المُحِبّ ؟! هل السبب هو التَّفكير والقَلَق مِن الأَوقات التّي لا تَجمع المُحِبّين مما تَجعَل النَّوم عَدُوَّهُم فنَرى كُلّ واحِد مِنهُم يحبس الآخر بَعيدًا عَن النّوم ويتركه والسَّهر لِيُصبِحا صَديقان لا يَفتَرِقان .. فَطالَما لَم يَلتَقِيا سَيَبقى السَّهر هُو سَيّد المَوقِف ،وسَيبقى كُلّ واحد منهما يتّهم الآخر بأَنّه يحبّه حَتّى يَنسى النَّوم وأَنّ حُبّه هُو السَّبب في حرمانه من النوم وهُوَ السَّجان الذي يَسجن حبيبته في عالَم اليَقَظَة بَعيداً عَن النَّوم ، ولكنّ هَل بقي هذا النَّوع مِن الحُبّ ، وهَل هُناك في هذه الأَيّام مَن يُحِبّ إِلى حَدّ عَدَم النَّوم أَو إِلى حَدّ التَّضحية ؟ هَل هُناك إِخلاص في الحُبّ ؟ ومَتى يَظهَر هذا الحُبّ ؟ وهَل يَنطَبِق هذا الحُبّ عَلى حُبّ العَمَل أَو حُبّ الأَبناء أَو حُبّ الوَطَن ؟!
رَشَفتُ رَشفَةً مِنَ الفِنجان .. ولاحظتُ دَوران سَطحِ القَهوَة لِتَعود وتَشَكِّل قَلب حُبّ مَرَّة أُخرى لا يَلبث أَن يَدور ويُكَوّن دائرَة ثُمَّ يَعود لينبعج ويُكَوِّن قَلب حُبّ مَرّة ثانية وثالِثَة ورابِعَة ..!!
ويكأَنّ الإِجابَة عَلى سُؤالي هي : نَعَم هُناك حُبّ حَقيقي وحُبّ مُخلِص وحُبّ مِثالي وحُبّ تَضحِيَة ، مَن يُضحّي بعمره وصحّتِه لِأَجل ِأَبنائِه هُوَ حُبّ حَقيقي والأُمّ التي فَقَدت زوجها وهي في قِمَّة شبابها وآثَرَت التّضحيَة لِأَجل أَطفالِها هِيَ تُحِبّ حُبًّا حَقيقيًّا، وذلك الذي ضَحّى بِحياتِه لِأَجلًِ بِلادِه .. أَليسَ ذلك هُوَ الحُبّ الحَقيقي ؟!
رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى مِنَ الفِنجان .. الذي تَشَكَّل بِه شَكل أَشبَه ما يَكون بالوَجه الذي يُرسَم عَلى حَبَّة القرع التي تُستَخدَم في عيد الهالوين .. تَمَعَّنتُ جَيّدًا في بالصّورة فِعلاً صورة لِحَبّة قَرع مُخيفَة تشبه ما نَراه عَلى التِّلفاز ولا أَدري لِماذا شَعَرتُ بِأَنّ المُؤَشِّر مِن هذه الصّورة هُو القِناع ، فالنّاس كُلّها تَرتَدي أَقنِعَة فَما تَراه غالِباً لَيسَ هُوَ الحَقيقي ، فالذِّئبُ يَرتَدي قِناع الحَمَل الوَديع إن كان يريد شيئاً منه والذي لا يلبِث أَن يَسقط عَن وَجهه في أَوّل موقِف صعب كذلك فإِنّ من تَتَعامَل مَعه لِسَنَوات وتَرَى مِنه ذلك الوَجه النّاعِم الحنون جَرّب أَن تُخطِئ مَعه لِمَرَّة واحدة لِتَرى ذلك الوَجه المَليء بالكُره والعدوانية والحقد .. لذلك أَنا أَقول أَنّ البِدايات دائِماً سَعيدَة وكُلّ النّاس سَيكونون مِثالِيين فَلَن يَأتي أَحدهم في بِدايَة علاقته مَعك لِيَقول لك مَرحباً أَنا شَخص سيِّء ! ولكنّ الأَيّام هِيَ مَن تَجعَل الأَقنِعَة تَزول وتَجعَل ما وَراء الأَقنِعَة يَظهَر ..
رَشَفتُ رَشفَةً أُخرى مِنَ الفِنجان .. الذي ذابَ فيه القِناع وظَهَر على السَّطح ما أَشبَه بالعيون .. وقُلت أَنّ العيون هِيَ التي تظهر صِدقَ الإِنسان مِن كِذبِه ، كَما قالَت فَيروز (عينينا هنّي أَسامينا)
ولكنّ هَل قِصَص الحُبّ التي تَستَمِر لِسَنَوات طِوال تَحتَمِل هذا الزّيف والأَقنِعَة ؟! ولِماذا يُقال عَن فَترَة الخُطوبَة بِأَنّها فَترَة الكَذِب ؟!
ولِمَ نَكذِب أَصلاً ما دُمنا نَهدِفُ لِتَكوين أُسرَة تَستَمِرّ عُمراً طَويلاً ؟!
أَعرِفُ مَن أَوهَمَ خَطيبته بِأَنّه مُهَندِس وعِندَما تَزَوّجها اكتِشفت بِأَنّه لَم يُكمِل دِراسته أَبداً ! فَكانَ الكَذِبُ سَبَبًا للطَلاق .. وأَعرِفُ مَن أَوهَمت خَطيبها بِأَنّها تَتَقاضَى راتِباً كَبيراً وعِندَما تَزَوّجها اكتَشَف عَكسَ ذلك فَكانَ ذلك سبب لِخِلافٍ دائِم !! فَقِصَص الحُبّ التي تُبنى على كَذِب لا شَكَّ بِأَنّها سَتَنتَهي لأَنّها قِصَّة تَرتَدي قِناعاً ولَيسَت قِصَّة حِقيقيَّة !
وعُدتُ للتَركيز مَع فَيروز ..
بشتقلَك لا بقدر شوفك ولا بقدر إحكيك ..
بندهلك خلف الطّرقات وخلف الشّبابيك ..
بجرّب إنّي إنسى بتسرق النّسيان ..
وبفتكر لاقيتك ورجعلي اللّي كان ..
وتضيع منّي كلّ ما لاقيتك ..
حبّيتك حبّيتك.. أنا حبّيتك حبّيتك ..
رَشَفتُ مِن الفِنجان .. وتَخَيَّلتُ المَشهَد بِأَنّ ذلك العاشِق الذي يَدور باحِثاً عَن طَيف حَبيبته في خلف الشَّوارِع فالذي يسير في الطريق يعلم إلى أين سيذهب وأما من يمشي خلف الطرقات فهو هائم ليست له وجهه ،ويَرى صورتها وراء كل ستارة شباك فَوراء كُلّ سِتارة مُغلَقَة يَتَخَيّل أَنّ مَحبوبته تَستَرِق النَّظَر لِتَراه .. فَيُنادي هُنا وهُناك حَتّى أَصبَح كالمَجنون .. آه لَو يَستَطيع نِسيانها فَكيفَ يَنساها وهِيَ التي كُلّما حاوَل ذلك يَجِدُها تَسكُن داخِلُه لِأَنّها سَرَقت النِّسيان فَهِيَ غَير قابِلَة للنِسيان ، ولكنّ هَل هُناك أَشخاص عصيّون على النّسيان ؟! هَل هُناك مَن لا تَنساه ؟! .. نَظَرتُ للفِنجان المُبهم المَعالِم .. رُبَّما كانَت الإِجابَة هِيَ .. نَعَم هُناكَ الخالِدون في الذّاكِرَة المُضَحّون أَصحاب الرِّسالات والمَواقِف تُخَلِّدهُم مواقِفَهُم وأَفعالَهُم فَيَكونون عَصيّين عَلى النِّسيان ، وهُناك الحَبيب المُخلِص والحَبيبَة المُتفانِيَة التي لا يُمكِن مَحوها مِن الذّاكِرَة .. فالحب القديم الذي يستمر ولا يمحى مهما مرت بعده تجارب.
فالبَعض يَبقَى في الذّاكِرَة غَير القابِلَة للنِسيان والبَعض يَمُرّ مُرورَ الكِرام .. والبعض كما قال محمود درويش ينسى وكأنه لم يكن !فَلا تَتَذَكَّر أَي تَفاصيل عِنه ..
يا خوفي إبقى حبّك بالإيّام اللّي جاية ..
وإتهرّب من نسيانك ما إتطلّع بمراية ..
حبسي إنت، إنت حبسي وحرّيتي إنت ..
وإنتَ اللّي بكرهو واللّي بحبّو إنت ..
يا ريت ما سهرت وغفّيتك ..
حبّيتك حبّيتك.. أنا حبّيتك حبّيتك ..
يا لِهذا الوَصف .. هَل أَخشَى أَن أَنظُر للمرآة لِأَنّك في عيوني التي لا تَرى سِواك فَكُلَّما نَظَرتُ لمرآة رأَيتُكِ أَمامي لِذا فَأَنا أَهرُب مِن مُواجَهَة حَقيقَة حُبِّك ، كَم نَهرُب مِن مُواجَهَة حَقيقَة نعرفها لأَنّ العاطِفَة تَقودنا لِنُكران الحَقيقَة فَأَحياناً العَقل يَقول لَك اذهَب للشَمال والعاطِفَة للجَنوب ، فَتُغمِض عينيك وتُغلق عَقلك وتَذهَب بِكُلّ إِرادَتِك للجَنوب ! كَثيرَة هِيَ المَواقِف التي أَنكرنا فيها الحَقيقَة ورضينا أَن نَحيا بالوَهم ، فَكَم عِشنا بِأَوهام سِياسِيَّة تَلاعَب بِنا فيها السّاسَة وَكَم عِشنا بِأَوهام اقتِصادِيَّة ونَحنُ نَعلَم بِكِذبِ النَّاطِق الإِعلامي ولكنَّنا رَضينا بالعاطِفَة وكَم أَغمَضنا عُيونَنا ولَم نَتّطَلِع بالمرآة !
رَشَفتُ آخر رَشفَة مِن الفِنجان ..
حبسي إنت، إنت حبسي وحرّيتي إنت ..
كَم مِنّا مَن يَكون سَعيد بسجنٍ ما ، فَيَكون سَجين أَفكاره ومُعتَقداتِه أَو سَجين عاداتِه وتَقاليده أَو سَجين قِصَّة لَم يَستَطِع تَجاوُزها ولكنّه سَجين سَعيد ،ولكن هل المَسجون يَكون سَعيداً ؟!
فَهَل تَتَأَثَّر نَفسِيَّة السَّجين بِنَوعِ القضبان يَعني لَو قمنا بسجن عصفور في قَفَص عادي وآخر في قَفَص مِن ذَهَب أَولَيسَ سَجينًا في كِلا الحالَتَين ؟! مُعظَمُنا يَعيش في سِجن نَفسي لا يُحاوِل التَّحرُّر مِنه ظاهره قَفَص مِن ذَهَب ولكنّ داخله سِجن، سَجين بِلا حُرِيَّة أَو إِرادَة ..
عِندَما يُسلَب قَرارك أَفلا تَكون سَجينًا حَتّى لَو كُنتَ بِأَيّ مَنصِب ! وإِن اضطهدتك واحتقرتك وأَسكنتك في قَصر مَمنوع عَليك مُغادرته أَوَلَستَ سَجيناً ذليلاً!! هل ستستمتع بالقصر!
مَظاهِر المَناصِب جَميل إِلا أَنّها ما هِيَ إِلّا سُجونٌ قُضبانُها مِن ذَهَب ، فالوَزير سجين الوظيفة والمُدير العام سجين وغيره كُلّهم سُجَناء في أَقفاص مِن ذَهَب !
أَمّا حَبيب فَيروز فَهوَ السَّجين الذي يأبى أَن يُغادِر سِجنَه فالسَّجين هُنا دلالَة عَلى الإِخلاص وأحاديّة المَشاعر فأَنا سَجين حُبّك أَي لا أَخونك ولا أُحِبّ أَحداً سِواك فهوَ سِجنٌ جَميل يَرفُض المُخلِص مُغادَرَته ..
يا لقصة الحُبّ هذه التي جَعَلت مِن بَطَلِها كالأَبلَه الذي يتنقّل خلف الشَّوارِع يَطرُق الشَّبابيك ويَصرُخ مِن كُلِّ قَلبِه .. لذلك قيلَ سابِقاً عَن خاتَم الخطبة بِأَنّه مَحبَس ، ولكن هل عادَ خاتَم الخِطبَة مَحبَس ؟!
وفَجأَة تَذَكَّرتُ أَنَّ سيّد قد رنّ علي لا بد أن عنده أخباراً جديدة عن أبو أحمد وأم أحمد ..
أَمسَكتُ هاتِفي وبَدأتُ بالاتّصال بسَيّد وأَنا وفِنجاني نُدَندِنُ مَع فَيروز ..
حبّيتَك تَ نسيت النّوم يا خوفي تنساني ..