أثار هجوم المتظاهرين الإسرائيليين قبل أيام على معسكر للجنود في "بيت ليد" اهتمام جميع المسؤولين الإسرائيليين بدءاً من الرئيس الإسرائيلي "هرتسوغ" الذي دعا المتظاهرين إلى "الانسحاب وعدم إلقاء مزيد من العبء على الجيش الإسرائيلي" ومروراً برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي تابع الموضوع باهتمام مع كلٍ من وزير الدفاع "جالانت" ورئيس الأركان "هاليفي" اللذين أدانا الحادث واعتبراه (خرقاً للقانون وإضراراً بالصورة "المبجّلة" للجيش الإسرائيلي)، كما أدانه بقوة زعيم المعارضة الإسرائيلية "لابيد" بعبارات حزينة حيث قال: "إنّ إسرائيل ليست على حافة الهاوية بل هي في الهاوية فعلاً"، كما أعتبر الحادثة "خرقاً لكل الخطوط الحُمر".
أمّا في الجهة الأخرى التي تمثل اليمين الإسرائيلي والمُكوّنة أساساً من حزب "العظمة اليهودية" بزعامة وزير الأمن القومي الإسرائيلي "بن غفير"، وحزب " الصهيونية الدينية" بزعامة " سموتريتش" فقد دافعا عن المتظاهرين (قرابة 1200 متظاهر من الحزبين المُتطرفين سَالِفي الذكر)، وأعتبرا الحادثة "دفاعاً" عن "الجنود الأبطال" المُحْتجزين في المعسكر بسبب تعذيبهم اللاإنساني لبعض المعتقلين الفلسطينيين.
وإذا درسنا هذه الحادثة بعمق نجد أنها تشير بوضوح إلى تعمّق الهوة بين اليمين الإسرائيلي (وبالذات الديني منه الذي يريد تطبيق الشريعة اليهودية المسماة "بالتلمود")، وبقية الإسرائيليين الذين يريدون الحفاظ على هوية الدولة الإسرائيلية كدولة علمانية ليبرالية تحاكي الغرب في منظومته القيمية ومؤسساته الحاكمة، وغني عن القول أنّ هذه الحادثة تُذكّر بقوة بموضوع "الإصلاحات القضائية" التي كانت حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة تريد إدخالها لولا أنها لقيت مقاومة شرسة وغاضبة من قطاعات كبيرة في المجتمع الإسرائيلي.
إنّ انزياح الرأي العام الإسرائيلي نحو اليمين مسألة واضحة تماماً يدُّل عليه تعاظم نفوذ المستوطنين (الذي أصبح يتمثل الآن في دخولهم إلى الحكومة الإسرائيلية كبن غفير وسموتريتش)، وتراجع اليسار الإسرائيلي حيث لم يستطع حزب "ميرتس" الذي يمثله تجاوز ما يُسمّى "بالعتبة الانتخابية" (أصوات ما لا يقل عن 3% من الناخبين) وإذا كان لهذا من معنى فإنّ معناه ببساطة صراع على "هوية" إسرائيل، هل يجب أن تبقى دولة علمانية ليبرالية على النمط الغربي؟ أم يجب أن تتحوّل إلى دولة تُطبّق الشريعة اليهودية ولا تتسع إلّا لليهود فقط؟
إنّ هذا الصراع المحتدم الآن في الكيان الإسرائيلي يُسبّب جملة مخاطر لا يمكن الاستهانة بها بالنسبة لإسرائيل وأهمها:
أولاً: تزعزع وضعية الدولة الإسرائيلية ككيان هش منقسم على نفسه وبالذات في هذه الفترة الحرجة التي تقاتل فيها إسرائيل كما تقول على "سبع جبهات"، وتواجه كما يدّعي نتنياهو "خطراً وجودياً" يَمس صميم كينونتها ومستقبلها.
ثانياً: خلق هوّة من نوع ما بين إسرائيل والغرب وبالذات الولايات المتحدة، ففي حين يؤمن الغرب بالقيم العلمانية والديمقراطية الليبرالية إيماناً راسخاً مُتجذّراً منذ مئات السنين تتوجه إسرائيل بتدرج وثبات كي تكون دولة دينية "توراتية" لا تأخذ بالتنوع (Diversity)، ولا بحقوق الإنسان (Human rights)، بل لا يرف لها جفن حين تُّتهم من قبل منظمات دولية ذات مصداقية كمنظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human rights Watch) ومنظمة العفو الدولية (Amnesty international) بأنها دولة تمييز عنصري (Apartheid). صحيح أن الغرب (وبالذات الولايات المتحدة) ما زال حليفاً موثوقاً واستراتيجياً لإسرائيل، ولكن ممّا لا شك فيه أن تحّول الدولة الإسرائيلية من دولة علمانية إلى دولة دينية سوف يكون له ما بعده على صعيد العلاقات مع الغرب والتحالف معه.
ثالثاً: تراجع نظرية الردع الإسرائيلي في مواجهه العرب فقد دأبت إسرائيل على تقديم نفسها للعرب على أنها قوة إقليمية كبيرة وأنّ جيشها "لا يقهر"، ولكن هشاشتها التي اتضحت بعد "السابع من أكتوبر" والصراع المتفاقم على الهوية داخل مجتمعها يظهرها كقوة عادية يمكن التغلب عليها -إنْ لم يكن الآن بفعل الوضع الجيوسياسي الإقليمي والدولي- على المدى المتوسط أو البعيد. إنّ التصدّع الحاصل الآن في إسرائيل بين مكوناتها الرئيسية يوضّح للعرب بجلاء أنّ هنالك مواطن ضعف خطيرة في إسرائيل، وأنها إذا ما اُستغلت جيداً وبذكاء يمكن أن تؤدي إلى الحد من خطرها إنْ لم نقل إلى هزيمتها.
إنّ التاريخ يعلمنا دائماً أن الدول لا تنهار بفعل عوامل خارجيه فقط (كالهجوم عليها من قبل قوى أكبر منها) بل إنها تنهار في حالات أكثر لأسباب داخلية تتعلق ببنيتها، وعلاقاتها المجتمعية الداخلية، وتكوينها المؤسساتي، وإذا أخذنا بهذا الدرس التاريخي وتأملنا في وضع إسرائيل من حيث نشأتها، ومكوناتها، وغربتها في الإقليم، وعلاقاتها التحالفية الدولية أمكننا أن نقول بكل ثقة بأن إسرائيل بدأت بالأفول، وأنّ عُقدة "العقد الثامن" (زوال الدولة الإسرائيلية تاريخياً في العقد الثامن) كما كتب رئيس وزرائها السابق "أيهود باراك" ليست تهويماً في الخيال بل واقع يجب التفكير فيه بعمق وبصورة موضوعية.