أرْمَلَـةٌ بَدَوِيـّـةٌ، عَليْها بَـقِـيـّةٌ منْ جَمالٍ ذَاهِب... تَركَ لَهَا الرّاحِلُ المرحومُ جُوعَاً، وفَقْراً، وَحَفْنةً منْ صِغَار.
بمُسَاعَدةِ بَعْضِ أهْلِ الْخيْرِ خُصِّصَ لَها ولأوْلادِها مبلغٌ من المالِ، تَـتقاضَاهُ في نِهَايـةِ كُلِّ شَهْرٍ، بعدَ طُولِ تَرَقّبٍ وانتظارٍ من صندوقٍ للْمَعُونَة.
المُنْتظِرونَ على بَابِ الصّندوقِ، في نِهَايَـةِ كُلِّ شَهْرٍ، كَثيرون. هُمْ أرَامِلُ، وأيتامٌ، وعَجَائزُ، وشُيوخٌ بِلا مُعيل.. وكانَ بينَ الْمُـنْتظرينَ في كُلِّ مَرةٍ، رَجُلٌ جَسيمٌ شَحِيمٌ، نُحَاسِيُّ الوجْهِ، أزرقُ الْعَيْنـيْن، يرتكزُ على قَاعدةٍ عَريضَةٍ، هِيَ بِالمُناسَبَةِ لَيْسَتْ قاعِدةً انتخَابيةً، ولا عَلاقَةَ لَها بِقَاعِدَةِ ابْنِ لادن، ولا بأيةِ قاعدةٍ غُـرِسَتْ في (شرجِ حوضِ المتوسط).
بَعْضُ الْعَارفينَ بِأمْـرِهِ، وهُمْ قِلّة، يَقُولونَ إنّه ليسَ فَقيراً، ولا مُحْتاجاً، بلْ هُو مَيْسُورٌ جداً مِنْ حَيْثُ الْمالُ والْمُمْتلَكات، ولَكِنّهُ فَقيرٌ جِدّاً مِنْ حَيْثُ عِزّةُ النّفْسِ والْكَرامَة، وإنّهُ وَجَدَ مَنْ يُـزيـّفُ لهُ أوْراقاً وَوَثائِقَ، تُبيحُ لهُ الْحُصُولَ على الْمَعُونَةِ الشّهْريّة.
كانَ ذلكَ الْمَخْلوقُ الْبَرْميلُ، أو (التّـبّانِـيـّةُ) بـُركاناً؛ يَـتـَفَـجّرُ ثَرْثَـرَةً وتَـبَجُّحَاً، وادّعَاءاتٍ فَارِغَةً، تَطَالُ الْجَميع.. كَمَا لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ أرْمَلَةً ولا عَجُوزاً... لا كَبيرَةً ولا صَغيرَةً، دُونَ أنْ يُسْمِعَها وابِلاً من قَارِصِ الْكَلامِ.
ويَـبْدو أنّـهُ، والعِلْمُ عِندَ الله، قَدْ أُعْجِبَ بالأرْمَلةِ البَدويةِ بِطَريقَتِهِ الخَاصّة.. فَكَانَ يُـبَـعْـثِـرُ الْكَلامَ، وَفْقَ نظريّةِ (إيّاكِ أعْني واسْمَعي يَا جَارَة).
ولأنّ الأرملةَ البَدويةَ، كَحَالِ قَوْمِها جَميعاً، كَانتْ مَطْبوعَةً على الحَياء، ولا تُحِبُّ بِطَبْعِها مَضْغَ الْكلام، ولا عَلْكَ (الْهَرْج) فقدْ كانتْ تَـتَغاضَى عن (هَـذْرَبـَةِ) هَذا الصّفيقِ، شَهْراً وراءَ شَهْرٍ، إلى أنْ.. كانَ ذلكَ اليوم.
كانَ الوقتُ ضُحَى، والفقراءُ يَـتَقَلّبونّ تّحْتَ أشِعّةِ الشّمْسِ الحَارِقَـة، وعُيونُهُم تَـتـَطَلّعُ إلى نافذةِ الصّندوق؛ مُنتظرينَ الإعْلانَ عنْ بَدْءِ تَسْليمِ حِصَصِهِمْ مِن المَعُونَةِ الشّهْريّةِ الزّهيدة.
وبَدأ الرجلُ البَرميلُ يَـبُثُّ ثَـرْثَـرَتَـهُ عَلى كُلِّ الْمَوْجَات، ويَطْغَى (خُـوارُهُ) على جَميعِ الْأصْواتِ.
وَفَجْأةً، فجأةً، وعَلى مَسْمَعٍ، ومَرْأى من الْحُضُورِ جَميعاً، وَجّهَ إلى الْأرْملةِ، الكلامَ قَائلاً، وهُوَ يَـغْـمِزُ بعينـيْهِ الزّرْقاويْن: مَا رأيُكِ في أنْ (تـُسَلِّمِينيْ أمْـرَكِ) أيتُها الأرْمَلةُ البدويةُ؟
احْمَرّ وَجْهُ البَدويـّةِ الأرْمَلَةِ؛ حَياءً منْ صَفَاقَةِ هذا الْمَخْلُوق. لكنّها غالَبتْ حَياءَها، وَقَاوَمَتْ إحْسَاسَها بالقَهْر، وضَغَطَتْ على أعْصَابِها وقَلْبِها الذي يَكَادُ يَـنْفَجـر، ثمّ قَالَتْ: ومِنْ أيْنَ لَكَ أنْ تُنْفِقَ على (زَوْجَـةٍ) ثانيةٍ وأطْفَال، وأنتَ تَقِفُ في آخرِ كًلِّ شَهْرٍ هَذا الْمَوْقِفَ المُذِلَّ الْمُهِين؟
قال، في تَلْميحٍ بَغيضٍ ودَنيءٍ، وَتَعْريضٍ سَافِـرٍ بَشِع: دَعْكِ مِنْ هَذا الْكَلام. (سَـلِّـمِينيْ أمْرَكِ)، وَسَتِجدينَ عِنْدي مَا هُو أهَمُّ مِنْ الْمَال...
اسْتَعَاذَتْ الْأرْمَلَةُ مِنْ جَهْدِ الْبَلاءِ، ثم قالتْ بِلَهْجَتِها الْبَدويّة: (يَا هَذَا، عَليْها وْجُوه الْحَاضرينْ، سَأكُونُ (حَـلِـيـلَـتَـكَ)، عَلى سُنَّةِ اللهِ وَرَسُولِه، إذا نَجَحْتَ فِي الامْتِحَان).
قال: أنَا مُوافِق. ومَا هُو هَذا الامْتِحَان؟
قالتْ: (تـقـومْ فَــزّْ، وتـقـعـدْ غَــزّْ !!!).
قال، وهو الذي لا يعرفُ لغةَ أهلِ هذا التراب: وكَيـْـفَ ذَلك؟
قالتْ: هَكَذا.. وَوَضَعَتْ يَدَيْها عَلى صَدْرِها، ثُمّ جَلَسَتْ مُتَـرَبـِّعَة. ثُمّ هَـبّتْ واقِفَةً، ويَدَاها عَلى صَدْرِها دُونَ أنْ تَسْتَعينَ بِهِما، أوْ تَرْتَكِزَ عَلَيْهِما، ثمّ عَادتْ مُتَرَبِّعَةً بِنَفْسِ الهيـْئة.
قَال: (وقـدْ ارْتَـعَـشَتْ عَيْنَاهُ كَـعَيْنَيْ (الْكَلْبِ السّـرّاق)، مَا ذَا يَعْني امْتِحَانـُكِ هَذا؟ لَا امْتِحَانَ إلّا ذَاكَ الامْتِحَان!! ...).
قَالتْ مُقَاطِعَةً، يُغَالِـبُها الْحَياء: النّجَاحُ في الامْتِحَان يَعْني الْقُوّةَ والشّبَاب. ويَعْني أنّ الْفِعْلَ عَلى قَدْرِ الْقَوْل.
كانَ الرّجُلُ ذُو القَاعِدَةِ العَريضَةِ مُسْتَلْقياً، فَجَلَسَ باركِاً على قَاعِدتِه المُتَرَامِيةِ الْأطْرَاف ...ألقَى قَـبْضَتيْهِ الْكُرَوِيـّـتَيْنِ عَلى صَدْرِه، فبَدا، وكأنّه (تـَبـّـانِـيّـة) مَمْلُوءَةٌ بـ (عَرانيـسِ الذّرةِ)، أو بِثمَارِ البطّيخِ في نِهَايَةِ مَوْسِم!!
تَأرْجَحَ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمال...هَمّ بِالْقـيَامِ، مرّةً، ومرةً، ومرّة. ولَكِـنّه بِفِعْلِ جَاذِبيّةِ القَاعِدَةِ الضَخْمَةِ لمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَتزَحْزَحَ مِنْ (مَـبْـرَكِـه).
في هذهِ الْأثـْناءِ، كانتْ الأرملَةُ البَدويةُ، والجَمْعُ الْمُحْتَشِدُ يَتـَصَايـَحُون: هَـيّا، انْهضْ، قمْ فــزّْ واقْـعـدْ غَــزّْ ... قـمْ فَــزّْ واقْـعـدْ غَــزّْ!
تَمَلْمَلَ الرّجُلُ ذُو الْقَاعِدِةِ الْعَريضَةِ... إذا ارْتَفَعَ قَليلاً منْ هُنا، هَوَى أكْـثَرَ مِنْ هُنَاك..
وَفَجْأةً ... فَجْأةً... جَاءَ الْفَرَجُ مِنْ أضْيَقِ الأبْواب! إذ انْطَلَقَ من الرّجُلِ (حيْشَا السَامعين، واللّي يطالعوا هذا الكلامْ) صَـوْتٌ مُنْـكَـرٌ أجَشُّ بَغيض، ارْتـَـجّ مِنْ هَوْلـِه الْجَمْعُ الْمُحْتَشِدُ بِالضّحِكِ والْقَهْقَهَات، فَانْفَضّوا مِنْ حَوْلـِهِ، يَضَعُونَ أصَابِعَهُمْ في أنُوفِهمْ، وَهُمْ يَـتَضَاحَكُونَ، وَيـُثـْنـُونَ على الأرْمَلَةِ البَدويّةِ التي خَلّصَتْهُمْ مِنْ ذَلكَ الْكَابُوسِ الثّقيل..
وَكَانَتْ.. كَانَتْ تلكَ التجربةُ (قَاطِـعَـةَ الشّر)!
أقولُ وأعْمَارُ النّاخبينَ تَطُول: مَا أشْبَهَ حَالَ الذينَ كانوا وما يزالونَ يُرَاوِدُونَ النّاسَ عَنْ أنْفُسِهِمْ، وَيـُمَـنُّونَهُم الأمَانِـيَّ، وَيُلـِحُّونَ عَليْهم، في كلِّ مـرّة، بَأنّهُم الأحْرَصُ عَلى مَصَالِحِهِمْ، والْأقْدَرُ عَلى خِدْمتِهم، والْأكْفأُ لِتَمثيلِهمْ في هَذهِ التّرْكيبةِ مِنْ الْمَجَالسِ الْمُنـْتـَخَبَةِ، أو تِلْك - بِحَالِ ذَلِكَ الرّجُل! ومَا أشْبَهَ جُمْهُورَ النّاخبينَ، بِحَالِ الْمُنْتظِرينَ والْمُنتظِراتِ، أمَامَ ذَلكَ الصّندوقِ، قَبْلَ أنْ تَقُومَ تلكَ الأرْمَلَةُ الْبَدويّةُ بِكَسْرِ حَاجِزِ الْحَياءِ والْخَوْف، بِالنّيابَةِ عَنْ الْجَميع!
الْفَرْقُ الْوحيدُ، هُوَ أنّ ذَلك المخْلوق، مُنْذُ أنْ أحْدَثَ مَا أحْدَث، ضَرَبَ صَفْحَاً عًنْ إبْدَاءِ رَغْبتِهِ فِي الوصايةِ على تلكَ الأرملةِ البدويةِ.. أمّا الّذينَ (يَا مَا أحْدَثُوا، وأخْبَـثُوا) – فَما يـَزَالُونَ، في كُلِّ مَوْسِمٍ انتخابي، يُـرَاوِدُونَ النّاسَ عَنْ أنْفُسِهِمْ، وَعَنْ إرَادَتِهِمْ، دُونَ أنْ يَجدُوا مَنْ يَقُولُ لِكُلٍ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَتْ تِلْكَ الأرْمَلَةُ الْبَدَوِيـّة: قـمْ فَــزّْ، واقْـعـدْ غَــز ّ!!