أدخل الغرب نموذج الدولة المدنية إلى منطقتنا العربية بطريقة جراحية، بعيداً عن اعتبارات الإرث الإجتماعي والديني والسياسي، لمجتمعاتنا، فكانت نتائجها دولة مدنية مشوهة فالبسناها قشور الديمقراطية الغربية وثوب الخلافة العثمانية وعصبيتنا القبلية العرقية العربية، فشكلنا أحزاباً دينية وقومية وعلمانية متعصبة أكلت الأخضر واليابس، تصارعت على السلطة وتركت المواطن يلهث وراء لقمة العيش فلم تستوعب أن المغزى من وجودها هو تداول السلطة وتحقيق العدالة والمساواة، فتراجعت وفقدت الثقة ليعود المواطن بالإحتماء من جديد بعصبيتة القبلية والدينية في الدفاع عن حقوقه.
عاش الأردن في خمسينيات القرن المنصرم تجربة جيدة من الحياة الحزبية وقطعنا شوطاً كبيراً إلا أنها باءت بالفشل لأسباب عديدة لا يتسع المقام للحديث عنه، لكنها كانت سبباً في فقدان الثقة وانقطاع الحياة الحزبية لأكثر من ثلاثين عاماً من الجفاء المزمن بين الأحزاب والمواطن، شهدنا بعدها حالة من المخاض الطويل في محاولات إجراء إصلاح سياسي متدرج نتج عنها في السنوات السابقة دعوى وإصرار ملكي صريح لإصلاح سياسي شامل قائم على مشاركة فاعلة للأحزاب في الحياة السياسية، فكان من نتائجه قانون أحزاب جديد فتح الباب على مصرعيه للانتساب للأحزاب دون قيد أو شرط، وقانون انتخاب جديد ميزت فيه الأحزاب بشكل كبير ما دفع الكثير الى الحراك السياسي وانشاء العديد من الأحزاب الجديدة بخطط وبرامج، وإن كانت تختلف بالشكل والمسمى ولكنها لا تختلف بالمضمون وهنا "مربط الفرس"، فعلى الرغم من تبني الدولة لهذه الحالة من الانفتاح على الأحزاب وترك الساحة لهم يصولون ويجولون فيها، فإن الموروث والرغبة بالانتساب للأحزاب لدى المواطن ما تزال متواضعة، فإذا ما قبلنا أن ذلك ليس بمعيار على اعتبار أن هناك فرقا مابين المنتسبين والمؤمنين بالعمل الحزبي، وهنا بيت القصيد حيث عمدت الأحزاب لسد هذه الفجوة إلى استقطاب الرموز العشائرية والوطنية كمؤسسين ومنتسبين بدليل أن القوائم الحزبية يغلب عليها الطابع العشائري في محاولة للاستفادة من رصيدها الشعبي وتحقيق مكاسب في زيادة عدد مقاعدها البرلمانية، فهي تعلم أي الأحزاب ونحن نعلم أن الناخب الأردني لا سيما في المحافظات الأكثر تصويت يسعى للتمثيل العشائري أولاً وقبل كل شيء، أما في عمان الأقل نسبة بالتصويت والأكثر عدداً وتمثيلاً، إذا ما استثنينا المناطق ذات الطابع العشائري فهي تمثل فعليا حسب استطلاعات الرأي (الاغلبية الرافضة) للمشاركة أما لأنها تعتبر نفسها غير معنية أو لعدم القناعة، اضف اليهم من جديد الأعداد الكبيرة من ابناء المحافظات الذين تم اعتماد مكان اقامتهم في عمان بعيداً عن مسقط راسهم، فلم تعد لديهم ايضاً الرغبة بالتصويت بعيدا عن قواعدهم العشائرية، وفي هذا الصدد قال لي احد أهم اساتذة القانون الدستوري الأردني أنه في رسالته للدكتوراة قبل ما يقارب الخمسين عاما ً في جامعة السربون الفرنسية حول (الحياة النيابية في الأردن) كنت محتار كيف أفسر للفرنسيين معنى "مرشح إجماع العشيرة".
أستطيع القول هنا، في انتظار ما سوف تفرزه تجربة المصاهرة الحزبية العشائرية، علينا أن نعترف وبعد مئة عام من عمر الدولة أن مفتاح وصول الأحزاب لمجلس النواب في يد مرشح "إجماع العشيرة"!!.