من المُلاحظ أنّ دولاً عديدة تشهد انتخابات في الفترة الأخيرة فبعد أن شهدت دول الاتحاد الأوروبي (27 دولة) انتخابات تمخّضت عن فوز غير مُتوقع لبعض قوى اليمين السياسي، شهدت بريطانيا بالأمس انتخابات انتهت بفوز ساحق لحزب العمال (412 مقعد من 650) مقابل (133 مقعداً) لحزب المحافظين الحاكم!
وقبل أسبوعين تقريباً شهدت فرنسا هي الأخرى انتخابات فاز فيها تحالف اليسار الفرنسي، وقد أتى بعده تجمع الوسط الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي "ماكرون"، كما تراجع اليمين المتطرف إلى المرتبة الثالثة، ولعلّ ما يجب تذكره في هذا السياق أنّ الولايات المتحدة تقترب من موعد الانتخابات في 05/11/2024، وقد بدأت إرهاصات هذه الانتخابات بالمناظرة "المشهودة" بين المُرشَحين المُحْتَملين لها وهما: الرئيس الأمريكي الحالي "بايدن"، والرئيس الأمريكي السابق "ترامب".
ماذا يعني هذا كله؟ إنه يعني ببساطة أنّ الشعوب الغربية تجدّد خيارات نظمها السياسية، وهي تكافئ من يجيد الحكم فتبقيه في سدة السلطة، وتعاقب من ترى أنه لم يكن مُوفّقاً في أدائه (كما في بريطانيا مثلاً) فتقصيه عن كُرسي الحكم.
إنه يعني أيضاً أن شعوب هذه البلدان تحظى بنعمة الحرية فلا أحد يُكرهُها على مسار سياسي مُعيّن بل هي التي تقرر هذا المسار "وتُشرعنه"، وهذا تكريس لما يُعرف بأنّ الأمة هي "مصدر السلطات"، وأنّ لا تغيير يمكن أن يأتي رغماً عنها، أو في غفلة منها.
ولعلّ المواطن العربي يُصيبه الأسى والاكتئاب عندما ينظر إلى المنظومة العربية فلا يجد أية "تجليات" حقيقية (حرية، انتخابات، تداول سلطة) في معظم هذه الدول وحتى إن حدثت فإنها تأخذ الطابع "الشكلي" الذي لا يُقدّم ولا يُؤخر!
بل إنّ الأمر تطور إلى ما هو اسوأ حيث فقدت بعض الدول العربية سيادتها وقدرتها على ممارسة سلطتها كدولة لصالح "جماعات" أو "ميليشيات"، أو "أحزاب: كما هو حاصل في السودان، وليبيا، واليمن، وإلى حدٍ ما سوريا ولبنان.
إنّ الوضع العربي يؤكد حقيقة مهمة لا تتقدم الشعوب والأمم بغيرها وهي "الديمقراطية" التي تضمن حق المشاركة الجماهيرية في صناعة القرار الذي ينعكس عليها في النهاية، ولكي تُمارس هذه الديمقراطية فلا بدّ أن تشعر الجماهير بأنها حُرّة: تفكر كما تشاء، وتعّبر كما تشاء، وتختار كما تشاء في إطار القانون.
إنّ الديمقراطية ليست آلية مثالية للحكم ولضمان حق الجميع في المشاركة، ولكنها بالتأكيد أفضل ما ابتكرته البشرية لضمان هذا الحق، ويتبقى أن كل مجتمع يطّور لنفسه الطرائق والأساليب التي توصله إلى الهدف، ومن هنا نجد أنّ النظام السياسي الأمريكي نظام رئاسي (Presidential system) يقوم على فكرة الفصل بين السلطات (cheques and balances) بينما النظام البريطاني نظام برلماني (Parliamentary system) يقوم على المزج بين السلطتين: التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة)، ويختلف عنهما النظام الفرنسي القائم على فكرة " الجمعية الوطنية".
وإذا عدنا إلى السياق العربي العام فإننا نجد أن هنالك جملة عوامل وأسباب تحول دون تبني خيار الديمقراطية وممارسته فعلاً لا قولاً، ولعلّ من أهم هذه الأسباب ضعف الثقافة الديمقراطية في العالم العربي والذي يعود في الأساس إلى ضحالة "الإرث" الديمقراطي في الحياة العربية تاريخياً، كما يعود إلى انشغال معظم القوى والأحزاب والتيارات العربية بتحقيق الاستقلال عن القوى الاستعمارية الأجنبية، ومحاولة تحقيق العدالة الاجتماعية بين الجماهير العربية التي كانت تتوق إلى توفير الخدمات الاساسية (ماء، كهرباء، نقل) قبل الانتقال إلى "ترف" المشاركة السياسية، وبالطبع فإننا لا نستطيع أن نُغفل في هذا السياق مواقف الدول الكبرى المهيمنة على مقدرات العالم والتي تقف بالضد من أيّ تطور ديمقراطي في النظم السياسية العربية لأنها تدرك أن الديمقراطية هي خيار الشعوب وهي بالتالي لن تكون في صالحها. إن هذه الدول -ورغم ما تتشدق به- ترغب في أن تظل الجماهير العربية جاهلة، وغير واعية سياسياً بل ومُهمّشة، الأمر الذي يعني الحفاظ على مصالحها.
أخيراً فإننا لا بدّ أن نؤكد على أن "الديمقراطية" لا تنشأ بقرار حتى وإن كان من أعلى سلطة في الدولة والمجتمع بل تتكرّس ويَصَلُب عودُها مع الزمن وبالممارسة التدريجية والتعلم، ومن هنا تأتي أهمية دور المؤسسات التربوية كالأسرة، والمدرسة، والمسجد، والنادي، ومكان العمل التي يُفترض أن تتكافل جميعاً في تعهد "بذرة" الديمقراطية والحرص عليها وصولاً إلى مجتمع يتبناها، ويدافع عنها بكل ما أوتي من قوة.
إنّ مشكلات العالم العربي كثيرة ومتشعبة ومن المُؤكد أنها تحتاج إلى حلول إبداعية في مختلف المجالات، ولكن الحل الذي يعد "أساس الحلول" هو الإيمان بالديمقراطية، والعمل في ضوئها، فهي الأمل المنشود لتحقيق الأهداف الكبرى والغايات السامية.