بعض الإجراءات والسلوكيات الاقتصادية الحكومية، وتحديدًا المالية منها، تحتاج إلى مراجعة وتقييم لمعرفة أثرها في الاقتصاد الوطني عمومًا، والخزينة خصوصًا، بعد سنوات من العمل بها. حيث ظهرت نتائج بعضها بشكل واضح مؤخرًا في السياسات الرسمية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مسألة احتساب الدين العام للخزينة مستثنى منه ديون صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي، فالأصل أن الدين هو الذي تلتزم به الحكومة، وتدفع أقساطه وفوائده، وسواء استثنت الحكومة دين "الضمان" أم لا، يبقى دينها الكلي أكثر من 42 مليار دينار أو ما نسبته 114.3 % من الناتج المحلي الإجمالي.
الحكومة، طبعًا، ارتأت بهذه المعادلة الحسابية أن تخفض نسبة الدين العام للناتج المحلي بعد استثناء ديون "الضمان"، والذي باتت نسبته الإجمالية 89 %، وهذه نسبة تفتح مساحات مالية جديدة للحكومة في سوق الاقتراض الدولية.
لكن هذا الإجراء ساهم بفتح شهية الحكومة لمواصلة الاقتراض من صندوق الضمان الاجتماعي وبأسعار فائدة عالية، وكان الأمر بالنسبة لها سهلًا، لدرجة أنها اقترضت لغاية يومنا هذا ما يزيد على 9.2 مليار دينار، وهو ما يفسر ارتفاع نمو أرباح الصندوق الذي تشكل فيه السندات الحكومية أكثر من 55 % من الأرباح الكلية لمحافظ الصندوق. الحكومة مطالبة بتخفيض الاستدانة من الصندوق، حتى يتمكن الأخير من توفير سيولة استثمارية لباقي المحافظ الاستثمارية، والتي يتطلع الصندوق إلى توسيع استثماراته الفعلية وتنويعها بدلًا من الاعتماد شبه الكلي على أرباح محفظة السندات الحكومية.
المفهوم الثاني هو ما تنادي به وزارة المالية بالعجز المالي الأولي في الموازنة، والمقصود بذلك هو العجز المالي الفعلي مطروح منه فوائد الدين التي تبلغ في عام 2024 ما مقداره 1.98 مليار دينار.
الحقيقة أن هذا الاستثناء وهذا المفهوم، أي العجز الأولي، لا يعطي أي دلالات حقيقية لواقع العجز الفعلي الذي تلتزم به الحكومة، وكل ما في الأمر أن ذلك إجراء رقمي تجميلي لا أكثر، والدليل على ذلك أن الدين العام يرتفع حكمًا بمقدار العجز الفعلي، وليس العجز الأولي.
القرار الآخر الذي بحاجة إلى مراجعة فعلية وتقييم اقتصادي هو القرار الجمركي بتخفيض الرسوم الجمركية عن سقوف التعرفة المسموح بها وفق الاتفاقيات الدولية، والذي يرى البعض أنه تنازل "مجاني" في الوقت الذي تحتاج فيه الخزينة لكل فلس، إضافة إلى أنه حماية شرعية وموافقة عليها دوليًا لحماية المنتجات الصناعية الوطنية.
نقول وبشكل واضح أن المفاهيم والإجراءات السابقة قد تكون فعلا تجميلية وشكلية ليس لها أي أثر إيجابي على الاقتصاد، وإذا كان لدى الحكومة غير ذلك، فلتثبت ذلك بدراسات علمية رقمية تكشفها للرأي العام، وتوضح إيجابيات تلك المفاهيم والسلوكيات المالية.
نعم، إن المنطق يقتضي أن تكون دراسة أثر القرارات قبل اتخاذها والسير في تنفيذها لا بعد ذلك.