ليس جديداً على إقليمنا الأزمات العابرة للعقود والقرون، ولعل المطلوب دائماً لهذه المنطقة أن تبقى قلقة غارقة في التوتر، وأن تنتقل من حرب لأخرى ومن لجوء شعب وتشريده إلى شعب آخر، ومن دولة مفككة غير قادرة على التخلص من عجزها الى دولة تتحدث عن الحلول لأزماتها الكبرى لكنها غير قادرة، ولايحتاج الأمر ألا جولة في الجغرافيا المحيطة بنا لنرى كل تلك النماذج.
العدوان على غزة لم يكن من يومه الأول عملية عسكرية قامت بها «حماس» ثم ردت إسرائيل انتقاماً ولتطمئن الرأي العام عندها بأنها دولة قوية، لكنها منذ اليوم الأول مرحلة سياسية يتم بناؤها بالدبابات والطائرات وكل أنواع السلاح، فغزة عبء تخلص منه الاحتلال قبل سنوات طويلة وغادرها وخرج بجيشه منها، ثم اصبحت جزءاً من السلطة الفلسطينية التي أنتجها اتفاق أوسلو، لكن الأخوة الاعداء من أبناء الشعب الفلسطيني لم يستطيعوا التعايش معاً فضلاً عن التدخلات، فكان الانقسام الذي تم توقيعه بدماء من ماتوا ليتحقق إنجاز فلسطيني مهم وهو وجود دولتين للفلسطينيين وليست واحدة.
وحتى يحقق الانقسام أهدافه ذهبت كل «دولة» من دولتي الفلسطينيين إلى مسار مختلف، مع أن هدف الاحتلال أن يصنع واقعاً سياسياً وجغرافيا يساهم في دفن فكرة الدولة الفلسطينية الحقيقية وليس ما هو موجود.
غزة دخلت إلى السابع من أكتوبر بعملية عسكرية مصدر قوتها المفاجأة، ثم دارت عجلة العدوان الذي لم يأت للانتقام فقط بل ليصنع قضية فلسطينية فرعية تغطي على القضية الفلسطينية الكبرى، ومنذ حوالي عشرة شهور ما زال العدوان، والحديث هنا ليس عن عدد الشهداء والجرحى والمفقودين والدمار الذي يحتاج سنوات كثيرة وعشرات المليارات، على أهمية كل هذا بل عن نتيجة أهم يريدها الاحتلال وهي صناعة «قضية غزة»، وهذه القضية عناصرها اليوم في أسئلة حول موعد توقف الحرب، ومن سيحكم غزة بعد الحرب وإجابة هذا السؤال هي محور القضية الجديدة، وسيبقى هذا السؤال طويلاً دون إجابة لأن إسرائيل لا تريد إجابة سياسية تعطي للفلسطينين حقوقهم، ولا تريد تواصلاً بين غزة والضفة كارض فلسطينية تحت الاحتلال.
نحن في الأردن الأكثر إيماناً وسعياً للدولة الفلسطينية الحقيقية على الجغرافيا الفلسطينية المتصلة، وواجهنا تعنت إسرائيل وقتلها لأي عملية سلام حقيقية مع الفلسطينيين، ولهذا فأن تعقيد الحالة الفلسطينية في ظل ظهور «قضية غزة»، سيجعلنا في مواجهة تفتت القضية الفلسطينية وتبعثرها، وهذا مناقض لمصلحتنا الوطنية العليا، ويزيد العبء على الأردن في إدارة علاقته بالقضية الفلسطينية، أزمة إضافية طويلة الأمد ربما لن تجد جهدا دوليا لحلها وستعمق انقسام الأخوة الاعداء في الضفة وغزة.