أحد أبرز أسباب الأزمة الاقتصادية سنة 1989 هو ترحيل المشاكل الذي انتهجته الحكومات في فترة الثمانينيات، والتي كانت تُنفق دون حساب أو رقيب على أمل أن المساعدات، خاصة تلك التي أُقرت في قمة بغداد 1979، والتي تعهدت بتقديم مليار دولار سنويًا للأردن لدعم صموده، ستأتي. لكن للأسف لم يأتِ منها سوى القليل.
لكن بقيت الحكومات تُنفق وتصرف الأموال على اعتبار أن الأموال ستأتي حتمًا، ليتفاجأ الأردنيون بانهيار اقتصادهم وانقطاع كافة أشكال التعامل الاقتصادي مع العالم الذي لم يعد يتعامل ماليًا مع المملكة إلى حين إبرام اتفاق تصحيح هيكلي مع صندوق النقد الدولي في ذلك الوقت، والذي فرض على الأردن اتخاذ مجموعة كبيرة من الإجراءات المالية، ومنها إزالة الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية والنقل والخصخصة، وفرض ضرائب ورسوم وشد الأحزمة، والتي عانى منها المواطن الأمرّين.
أقول هذا الكلام الذي بات في الماضي فقط للتذكير وليس للترهيب، وأُذَكِّر أيضًا الحكومة أن إيرادات الخزينة التي تشهد ضغوطات كبيرة منذ بداية حرب الإبادة على غزة ولغاية يومنا هذا ستترك آثارًا عميقة على العديد من الأنشطة الاقتصادية يصعب التخلص من تداعياتها دون خطة مالية محكمة.
أقولها بصراحة، ليس من المنطق أن تواصل الحكومة مسلكها بالإنفاق الراهن بهذا الشكل وكأنه لا يوجد حولنا حرب إبادة تُلقي بظلال قاتمة على الاقتصاد الأردني.
ولا يمكن للحكومة أن تواصل إنفاقها بهذا الشكل المحدد لها في قانون الموازنة وإيرادات الخزينة في تراجع مستمر على مختلف المستويات (أكثر من 400 مليون دينار خلال الشهور الخمسة الأولى تقريبًا).
لا يمكن للحكومة الارتكان في استقرارها المالي على وجود اتفاق مع صندوق النقد الدولي للسنوات الأربع المقبلة، والذي يتيح لها مزيدًا من الاقتراض دون أن يكون هذا الاقتراض موجهًا للمشاريع الرأسمالية الدافعة لعجلة النمو، بدلاً من حصولها على تلك الأموال لتمويل نفقاتها المتزايدة.
الحكومة لا تمتلك ترف الوقت حتى تواصل إنفاقها بهذا الشكل، في الوقت الذي يتطلب منها مزيدًا من الحذر في السلوك الإنفاقي.
ليس من المنطق أن توقف وزارة المالية صرف المخصصات للوزارات والمؤسسات، ولكن أيضًا لا يجوز تأجيل دفع المستحقات للمعنيين، بمعنى ترحيل دفعات مالية مستحقة لفترات لاحقة لا يُعلم كيف سيتم سدادها، وفي أي وقت لاحق.
الوصول إلى المؤشرات المالية المقدرة في قانون موازنة الدولة هو أمر حتمي وضروري لا بد منه، ولا يعني ايضا النمو في إيرادات العام الماضي، وكأن السياسة المالية حققت أهدافها، فالأساس أن يتم الوصول لأهداف الخطة المالية لسنة 2024.
الحكومة مطالبة بأن لا يتم ترحيل أي مشاكل مالية إضافية، خاصة في مسألة المتأخرات المالية المتراكمة عليها، سواء أكانت على الحكومة المركزية أم الهيئات المستقلة، فالدين يبقى دينًا على المملكة، بغض النظر عمن عليه.
الحكومة تدرك ما أقول جيدًا بأنها يجب أن تتجاوز بعض الشعبويات، خاصة في هذه الفترة، وتسير بمنهج تصحيحي هيكلي في الاقتصاد ووقف النزيف المالي من خلال حلين لا ثالث لهما في هذا الوقت تحديدًا، وهما: إعلان شامل لضبط الإنفاق العام في الدولة حسب الأصول القانونية، وليس بوقف الصرف كما هو حاصل حاليًا، والثاني المباشرة باتخاذ إجراءات مالية لضبط النزيف الحاصل في إيرادات الخزينة دون النظر إلى أي أمور شعبوية قد تدفع ثمنها الأجيال في المستقبل، لا سمح الله، إن لم تتداركها الحكومة بسرعة.
والله من وراء القصد.