تختلف احتياجات الإنسان المعرفية، باختلاف الزمان والمكان، وكلما تقادم الزمن تسارع معه نمو المعرفة والقدرة على الفهم المتمكن بارتفاع معدلات الاكتشافات العلميّة والابتكارات التكنولوجيّة.
مما دفع بتحول المجتمعات من مجتمعات صناعية تقليدية خرساء، المال فيها هو العامل الرئيس، إلى مجتمعات معرفيّة واعية ابتكارية، رأس مالها الذي تعتمد بنموها عليه هو المعرفة المبنية على الحقائق والدراسات والأبحاث.
ولا يكفي امتلاك المعرفة لوحده، إن لم يستطع مالكها توظيفها في مختلف مجالات الحياة، ولعلنا في الأردن منذ مرحلة التأسيس مروراً بمرحلة البناء وحتى مرحلة التعزيز، كنا قد التفتنا مُبكرًا لرأس المال الحقيقي في بناء اقتصاد المعرفة، وهو الإنسان، فأطلق الملك الراحل الحسين بن طلال مقولته الشهيرة "الإنسان أغلى ما نملك".
واجهت مؤسسة التعليم العالي متمثلة بالجامعات، تحدّيات كثيرة في سعيها لامتلاك قوة المعلومة في عصر اقتصاد المعرفة، سواء من ناحية التحديث المستدام لوسائل وأساليب التعليم، أو من ناحية التمويل، مما دفع بإدارات التعليم العالي بالدفع باتجاه تحويل الجامعات إلى جامعات منتجة، قادرة على توفير مصادر تمويل ذاتية، تمكنها من التوسع في أبحاثها، وترفع من قدرتها على احتضان الإبتكار عند طلبتها وكوادر العاملين فيها.
وفي ظل الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي نعيشها، والأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم، أصبح التوجه لبناء جامعات منتجة أكثر إلحاحًا مما كان عليه من قبل، لتمكين الجامعات من أداء رسالتها في التعليم والبحث العلمي من جهة، والقيام بمسؤولياتها إتجاه الوطن والمجتمع، وإسهامها بتنميته وبناء نهضته من جهة أخرى.
الجامعة المُنتجة هي الجامعة التي تكتفي ذاتيّاً، وتحقّق مستوى دخل يُلبّي احتياجات الجامعة لتطوير العملية التعليميّة، من خلال خلق مصادر تمويل متنوعة، منها البحوث العلمية التخصصيّة والاستشارات والدّورات مدفوعة الأجر على سبيل المثال.
وأشارت دراسة نشرتها مجلّة العلوم التربويّة والنفسيّة، في عددها السادس والأربعين، إلى أنّ "الجامعة المنتجة تسهم في الحد من البطالة، وتوفير الكوادر الوطنية الماهرة المدربة، وتحقيق متطلبات التنمية المستمرة والمستدامة للاقتصاد."
كما أكدت دراسات أخرى أنّ اضطلاع الجامعة بدورها التنموي من خلال الاستغلال الأمثل لمواردها المالية والبشرية، يُسهم في تكامل الدور البنائي للدولة ككل، سواء في تنمية الاقتصاد الوطني، أو تنمية روح الإبتكار والإبداع، أو زيادة الإنتاجيّة عند الأفراد، كما يزيد من قدرة الجامعات التنافسية المتوافق مع معايير الاعتماديّة الدوليّة.
ويرى الخبير التربوي الدكتور محمود مساد، الذي كان قد قدّم أطروحة الدكتوراة في جامعة ميشيغان في الولايات المتحدة الأمريكيّة، والتي تمحور بحثها حول (الجامعة المنتجة نموذجًا)، أنّ فكرة الجامعة المُنتجة، تُخرج الجامعة من دورها الخدمي الاستهلاكي، إلى دور إنتاجي أكبر، ويوضح أن رسالته للدكتوراة كانت عن جامعة ميشيغان كنموذج متميز للجامعة المنتجة، مبينًا أن ميشيغان قد بنت مدينة متكاملة من حولها، فيها فنادق ومدارس ومستشفيات ومزارع ومصانع جامعيّة تتبع لها، والتي تُديرها وتشرف عليها من خلال الكليّات، وطلاب الجامعة الذين يتدربون ويطبّقون معارفهم التي اكتسبوها داخل هذه المدينة الجامعية المنتجة والشاملة.
يقول مساد : "لقد قمت خلال بحثي بالمقارنة بين أربع دول هي: الأردن وأمريكا ومصر وبريطانيا، وتمحور بحثي حول الجامعة المنتجة، وتناولت جامعة ميشيغان كنموذجٍ عمليٍّ ناجحٍ ومتميّزٍ على مستوى العالم."
وأضاف لقد حاولت نقل التجربة إلى الأردن من خلال إقتراح جامعة العلوم والتكنلوجيا نموذجًا، ووقع اختياري عليها لأنها تقع على مساحة شاسعة من الأراضي تبلغ عشرة آلاف دونم.
وأوضح مساد أنّ جامعة العلوم والتكنلوجيا، بالفعل تبنت الفكرة وقامت بإنشاء المدينة التقنية، والعديد من المزارع الإنتاجية، والمستشفى الجامعي، وقدّمت نموذجاً ناجحاً في الإنتاجيّة والاكتفاء.
وقال أن العلوم والتكنلوجيا أثبتت قدرتها على التحوّل إلى الإنتاجيّة، وتمكين طلبتها من التعامل مع آليات السوق ومتطلباته، وتحويل التخصصات الجامعيّة إلى تخصصات تطبيقيّة، وأنّ هذا النموذج من الممكن تعميمه على جميع جامعاتنا في الأردن.
اعتدنا في الدول النامية أن تكون الدولة هي المصدر الرئيس لتمويل التعليم، ومع افتقار هذه الدول لمصادر الدّخل والتمويل، إمّا لشحّ ثرواتها، أو لضعف القدرة على استثمار مواردها، كان لا بد أن تبحث المؤسسات التابعة للدولة، ومنها المؤسسات التعليميّة، عن مصادر تمويل ذاتيّة، تزيد من إنتاجيتها وتُسهم في تعزيز فرص التنمية الاقتصاديّة في الدولة.
ولن تستطيع الجامعات أن تتحوّل إلى جامعات إنتاجيّة إلا من خلال عقد شراكات مع جامعات عالمية إبتكاريّة في مشاريع بحثية إنتاجية، وقد نجح عدد ولو كان قليلاً من جامعاتنا الأردنيّة، مؤخرًا بالتحوّل إلى الإنتاجيّة، من خلال الاندماج مع آليات السوق ومتطلباته، في استثمار قدراتها البحثيّة وإمكانيّاتها في التدريب وتقديم الاستشارات.
وعلى بقيّة الجامعات الحكوميّة بالذات والتي تعاني من عجز في موازنتها، وضعف في مواردها، أن تحذو حذو شقيقاتها من الجامعات الأخرى التي نجحت في التحول نحو الإنتاجيّة.
خاصّة وأنّ الحكومة تتجه للتوسع في سياسة التوفير وضبط الإنفاق والتقشف، والتي ستُلقي بمزيد من ظلال العجز المالي على الجامعات الحكوميّة، وتُلجئ بعض الجامعات إلى تحميل العبء المالي على الطالب من خلال رفع الرسوم الجامعية وأسعار الساعات الدراسيّة، الأمر الذي سيتسبب بعزوف الطلاب عن الدراسة في الجامعات الوطنيّة والتوجه للدراسة في الخارج، مما سيؤثر على الاقتصاد لعدة أسباب منها ما يقتضيه الأمر من تحويل العملة الصعبة خارج الأردن.
الجامعة المنتِجة تقوم على ثلاثة أركان:
- ركن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع.
- وركن تعزيز التعليم الذاتي والإعداد الشامل للطلاب.
- وركن القدرة على تحويل المعارف النظرية إلى ممارسات تطبيقية قابلة للحياة.
خلُصت دراسة لمجموعة من الباحثين نُشرت في مجلة دراسات في الإقتصاد وإدارة الأعمال، بعددها الصادر في الخامس من حزيران من عام 2019م، بعنوان (تبني نموذج الجامعات المنتجة كآلية لتنويع مصادر تمويل التعليم العالي -دراسة تجارب دولية-)، "إلى أنّ تطبيق نموذج الجامعات المنتجة من شأنه أن يساهم بشكل فعال في تعزيز إيرادات الجامعة والقضاء على مُشكل تمويل الجامعات."
وخلال بحثنا التحليلي وجدنا أنّ النمو السكاني المتسارع يُلقي بعبئه أيضًا على التعليم، باعتباره أحد محاور الخدمات والاحتياجات الأساسيّة للمواطن، مما يزيد من حجم الإنفاق، الذي يتطلب المزيد من الموارد، والذي يفرض مسؤوليّة وطنيّة على الجميع، بإبتكار وسائل إنتاجيّة تدعم وتساند الموارد الحكوميّة وتخفف العبء عن الموازنة.
ما نشاهده من ممارسات على أرض الواقع تشير إلى أن التعليم في الأردن يتوجّه إلى الإستثمار في الموارد البشريّة، فالوزارة المُشرفة على الشأن التعليمي في الأردن تتجه للتحوّل إلى وزارة تتسمّى بالتعليم والموارد البشريّة، مما يعكس تغيّر واضح في اتجاهات الوزارة وتطوّر في رؤيتها، وتوسع في مهامها.
إنّ حجم الفائدة المترتبة على التحوّل من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن إدارة التعليم المجرّد، إلى تنمية الإبتكار وصناعة العقليّة الانتاجيّة، وإدارة الموارد البشريّة، يتعدّى المنظور الظاهر إلى ما هو أعمق من ذلك، من تفكيك لمشكلة البطالة، وتقليل نسبة التضخم، وزيادة الموارد، وتعزيز المواطنة بأبهى صورها.
يجب أن نتعامل مع الجامعات كجزء من آليات السوق، ويجب تيسير مهمتها في تسويق المعارف والدراسات والأبحاث ذات العلاقة بالسوق، لأنّ ذلك يؤدّي إلى مزيد من التنمية من خلال توفير قاعدة معلوماتية وقراءة رقميّة تعتمد على حقائق تم استقصاؤها والتثبت من صحتها، ليتمكن المستثمر من البناء عليها وتطوير منتجه وتعزيز خطوط إنتاجه بناءًا عليها.
أشارت الباحثة العراقيّة سراب فاضل مخيبر من جامعة بغداد في بحثها المعنون بِ (بناء أنموذج الجامعة المنتجة):
"أنّ معظم الجامعات لا تتوافر لديها الموارد الكافية، وبالتالي فإن تبني مفهوم الجامعة المنتجة يمثل أسلوبًا مناسبًا لواقع التمويل في تلك الجامعات"
ويذكر مختصّون أنّ من أبرز التحدّيات التي تواجه عمليّة التحوّل للإنتاجيّة في الجامعات هي نظرة المجتمع للجامعة، والذي يُصر على التعامل معها وكأنها جمعيّة خيريّة -على فضل الجمعيات- أو مؤسسة خدميّة لا أكثر، ويرفض تقبّل فكرة تحوّلها لمسار تسويقي تجاري، يبيع الخدمات المعرفيّة من خلال الأبحاث والدراسات والاستشارات والدورات مدفوعة الأجر، على سبيل المثال.
وللمجتمع الحق في إبداء مخاوفه، خاصّةً أننا في الدول النامية لازلنا لا نفرّق بين الإنتاجيّة والتجاريّة، فممارسة بعض الجامعات المُسيء لفكرة الإنتاجيّة، من خلال المتاجرة بالطالب والتعليم، والتكسب غير المُنتج، والذي لا يُسهم بتعزيز الاقتصاد الوطني ولا الحد من العجز في الموازنة، أدى إلى تشويه صورة الجامعة المُنتجة وتخوّف المجتمع منها.
فإنتاجيّة الجامعات يجب أن تتجه إلى التوسع في تقديم الخدمات للمجتمع، وزيادة كفاءة الخدمات التعليميّة، وتمكين الطالب من التعامل مع واقع الحياة وتوظيف معارفه التي اكتسبها بالتعامل مع السوق.
الإنتاجيّة تتطلب الاستخدام الأمثل للموارد وتعزيزها، واستحداث منتجات معرفيّة جديدة للسوق، وقبل كل ذلك تتطلب تشريعات تُلزم القطاعات الاقتصاديّة بالانفتاح بالتعامل مع الجامعات، من خلال طلب الاستشارات والدراسات والتدريب بهدف تحسين الأداء وزيادة الإنتاج.
خلاصة الأمر أنّ التحدّيات الاقتصاديّة التي يمر بها وطننا تقتضي منا جميعًا أفرادًا ومؤسسات الاندماج في عملية الإنتاج وتعزيز الموارد ودعم الاقتصاد الوطني من خلال التحوّل المعرفي من الاستهلاك إلى الإنتاج، وخلق روافد تمويل غير تقليديّة، ليس بهدف الربح، وإنما بهدف تحقيق الاكتفاء وتحسين جودة التعليم.