في موسم الإنتخابات هذا, أفتقد النائب الراحل يحيى السعود... هو لم يكن نائبا في البرلمان بقدر ما كان حالة شعبية جميلة ونبيلة ومرحة في ذات الوقت..
أغلبية ما قاله يحيى في البرلمان كنت أنا من يقوم بصياغته, وأغلبية الموائد التي تندلع فجأة دون تخطيط كنت أول من يكون على رأسها.. وأغلبية التحليلات الكاذبة وغير الواقعية لوضع الساحة المحلية, كنت أزود يحيى بها..
حين أتذكر يحيى أبكي وأضحك في ذات الوقت , أبكي على رجل شكل حالة في السياسة الأردنية لن تجد مثيلا لها , أبكي لأنه الفقير الذي خرج من زوايا الصبر والحرمان وشق طريقه ... وأحب البلد وأهلها ...وكان الوفاء لفلسطين عنده مثل الصلاة التي يقيمها في موعدها ...وفلسطين ليس لها موعد , هي حاضرة في كل لحظة ومناسبة وعند كل إغفاءة عين ..وعند كل وضوء ..وبالمقابل أضحك لأني أتذكر حال الأحزاب اليوم , وأسأل نفسي أي حزب سيتسع يحيى لو كان حيا...يحيى كان حزبا بحد ذاته , عبر عن القايش عبر عن الفقراء ..عبر عن كل المهمشين وأعاد الضحكة لنا ..حين سرقها من زوايا الصمت , وسخف عبرها كل من يحيطون أنفسهم بالقداسة ويظنون أنهم طبقة النخبة السياسية التي لايجوز المس بها .
ترك الحياة مبكرا , غادرها دون صمت ودون ضجيج ودون أن يمضي شهورا في المستشفيات ...غادرها بحادث على الطريق الصحراوي , وقد أبكاني يومها ..لأني لم أعرف يحيى من خلال الحياة البرلمانية فقط, عرفته قبل ذلك بكثير حين كان عضوا مجلس في أمانة عمان ...حين كانت سيارته (المازدا ) مليئة بالأوراق وطلبات التعيين ..وحين كنا نمر من شارع الفحيص لشراء البدلات ...
ذات يوم كتبت له كلمة ألقاها في المجلس التشريعي الفلسطيني , سهرنا حتى الفجر ونحن نعيد في الصياغة ..ونعلم يحيى كيفية الإلقاء , وحين سافرهاتفني من فلسطين يومها يسأل عن سطر في الجملة ...وتبين لي أن يحيى نسي علامات الترقيم ونسي التشكيل ..ونسي كل شيء , فقررنا عمل (بروفا) جديدة للإلقاء ..وعبر الهاتف .
لا أتخيل الإنتخابات من دون يحيى , على الأقل في وجوم السياسة وغضبها , وكرهنا لها ..استطاع يحيى أن ينتزع من قلب هذا الوجوم ضحكتنا ..أستطاع أن يرسم على شفاهنا البسمة , ولو شهد حرب غزة لحمل حقائبه ولوجدته الان على معبر رفح ينتظر الدخول ..
أيها الغافي تحت تراب بلدنا الأغر , يحيى السعود ...تأخرت في الكتابة عنك ..تركت الكل يكتب , وها أنا أكتب بعد رحيلك بأعوام ...أكتب عن أخ كلما دخل مكتبي بدأ بالبحث عن سجادة الصلاة , لدرجة أني أحضرت واحدة ليحيى فقط ...سجادتك التي كنت تصلي عليها في مركز الحسين الثقافي, معي الان موجودة في مكتبي وهي تفتقدك ...والماء الساخن حضرناه لك لأجل الوضوء , وصراخك في المكتب ..تفتقده الشبابيك والمرايا , والهوشات التي تندلع على الهاتف ..هي الأخرى نفتقدها ...
على الأقل يبقى يحيى السعود الرجل الذي صعد من قلب الشقاء والمعاناة ..وليس من قلب المال والشركات ...
بعدك لمن سنكتب الكلام يا يحيى ...؟ رحمك الله يا ابن الخطى المتعبة ...ويا ابن الحنان النقي , ويا ابن الطفيلة العذبة ...رحمك الله .