من المعروف أنّ الدول لا تقوم على عنصر القوّة فقط بل تقوم على عناصر عديدة من أهمها عنصر المشروعية (Legitimacy) أيّ اعتراف العالم بشرعية وجودها، ونزاهة مسيرتها، والتزامها بالقوانين الدولية، والأخلاقيات الإنسانية، ولا شك أنّ إسرائيل (التي أُنشئت بقرار الأمم المتحدة) نجحت طوال (76) عاماً في تسويق نفسها على أنها دولة صغيرة تعيش في محيطٍ معادٍ، وأنّ شعبها كان ضحية للنازية والمحرقة (Holocaust) وأنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وأنّ جيشها هو "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم".
ولكن... ومع توالي الحرب الهمجية التي تشنّها إسرائيل على غزة والتي انطوت على مقارفات غير مسبوقة شملت تدمير أكثر من (70%) من مباني قطاع غزة، وقتل ما لا يقل عن (35,000) فلسطيني ثلثاهم من النساء والأطفال، وتهجير قسري لأكثر من مليون إنسان ولأكثر من مرّة، وتجويع طال معظم سكان القطاع (2,300,000) وبالذات شمال غزة. مع توالي ذلك كله بدأت معظم دول العالم وشعوبها ترفع صوتها ضد الممارسات الإسرائيلية بل وصل الأمر إلى حد اتهامها "بالإبادة الجماعية"، واتهام قادتها (رئيس الوزراء نتنياهو، ووزير الدفاع جالانت) بجرائم حرب، وقد أخذ هذا الموقف الدولي الذي يضع تساؤلات حول مشروعية إسرائيل يأخذ أشكالاً عديدة من أهمها:
أولاً: قطع العلاقات الدبلوماسية حيث قامت بعض الدول مثل بوليفيا، وكولومبيا، وتشيلي بقطع العلاقات مع إسرائيل، كما قام الأردن بسحب سفيره من تل أبيب وأبدى عدم رغبته في عودة السفير الإسرائيلي إلى عمان.
ثانياً: تصويت غالبية كبيرة من دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة (143) إلى جانب الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتوصية مجلس الأمن بالسير في نفس الإجراء.
ثالثاً: قرار بعض الدول الأوروبية (وهي حليفة تقليدياً لإسرائيل وأعضاء في الاتحاد الأوروبي) كإسبانيا، وإيرلندا، والنرويج بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، واتجاه عدد آخر من دول الاتحاد للسير في ذات الاتجاه، الأمر الذي يزيد من عزلة إسرائيل، ويهدد بفقدانها لوضعها الذي طالما تمتعت به في الغرب.
رابعاً: الحراك الجماهيري العالمي ضد سياساتها، حيث عمّت المظاهرات والاعتصامات معظم عواصم العالم ومدنه الكبرى وحتى في الدول الغربية (واشنطن، لندن، باريس...) مطالبةً بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي (Free Palestine) وإيقاف التطهير العرقي (Genocide) الذي تمارسه إسرائيل، وإنّ مما لا شك فيه أن وقوف الشعوب (وبالذات في الدول الديمقراطية) ضد سياسات حكامها يعني الكثير، كما ينبئ بتغييرات سوف تكشفها صناديق الاقتراع لاحقاً.
خامساً: "الانتفاضة الطلابية" الكبيرة التي بدأت من الولايات المتحدة (جامعة كولومبيا) ثم امتدت إلى أوروبا، واستراليا، واليابان، وكندا، والملفت في هذه الحركة الاحتجاجية الطلابية أنها تمثل الأجيال الشابة الواعية والتي قد تستلم زمام الأمور في المستقبل وبخاصة أنها تمركزت فيما يُسمى جامعات النخبة (هارفارد، MIT، في أمريكا)، (أكسفورد وكمبردج في بريطانيا)، (لوفن في بلجيكا)، (ماكجيل في كندا). إنّ طلبة هذه الجامعات الذين يتظاهرون ويعتصمون الآن لصالح القضية الفلسطينية هم أفضل الطلبة من حيث الذكاء والتحصيل الأكاديمي، ومن المرجح أن يكون عدد غير قليل منهم من "صناع القرار" ومن "ذوي الشأن" في مجتمعاتهم.
سادساً: قبول محكمة العدل الدولية بمعقولية اتهام إسرائيل بتهمة "الإبادة الجماعية" للشعب الفلسطيني في غزة وبدئها بالتحقيق في الموضوع وإصدار الأوامر الاحترازية في هذا الشأن. إنّ قبول مبدأ اتهام إسرائيل بهذه التهمة التي تُعتبر أم الجرائم (أيّ الإبادة الجماعية) تضع إسرائيل في قفص الاتهام وتنزع عنها جزءاً كبيراً من مشروعيتها، بل وتضع كل من يدعمها (وبالذات بالأسلحة) موضع اتهام.
سابعاً: طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق إثنين من أكبر قادتها (رئيس الوزراء نتنياهو ووزير دفاعها جالانت) بسبب ارتكابهم لجرائم حرب، وإنّ مما لا شك فيه إن إصدار مثل هذه المذكرات التي من المتوقع أن تصدرها المحكمة بناءً على طلب المدعي العام له معنى كبير إذ يعني أول ما يعنيه أن كبار قادة إسرائيل يرتكبون بالفعل جرائم حرب (تدمير البنية التحتية، قتل السكان، التهجير، التجويع...)، الأمر الذي يعزز نزع "المشروعية" عن البلد الذي يحكمونه، ولذا فليس غريباً أن تُصاب إسرائيل "بالهستيريا" بسبب قرار المدعي العام للجنائية الدولية، كما أنه ليس غريباً أن تستنفر الولايات المتحدة (الحليف الرئيسي لإسرائيل وداعمها بغير حدود) ضد هذا القرار مهددةً باتخاذ كافة الإجراءات الممكنة ضد محكمة الجنايات الدولية، ومدعيها العام، وقضاتها.
إننا لا نبالغ إذْ نقول بأن إسرائيل التي طالما نالت الدعم من الهيئات الأممية وبدتْ وكأنها فوق القانون، فقدت جزءاً غير قليل من مشروعيتها، وبدت أمام العالم أجمع كدولة مارقة تنبذها كثير من الدول، وتدينها كثير من الهيئات الدولية (الصحة العالمية، الأنوروا، مجلس حقوق الإنسان....)، وتتحرك ضدها الجماهير العريضة على مستوى الكرة الأرضية.